شاء غازي القصيبي أن تكون روايته الأخيرة «الزهايمر» التي لم يتسنّ له أن يشاهدها مطبوعة والتي تصدر في بيروت خلال أيام، أشبه بوصيته الأخيرة يعرب فيها باختصار عن نظرته الى أمور طالما شغلته سابقاً وشغلت أبطاله الروائيين ومنها مثلاً: الشيخوخة، الذكريات، الموت، الحبّ، النسيان، الألم... لكنّ هذه الرواية القصيرة التي أصرّ على تسميتها «أقصوصة» كما كتب بخطّ يده، وأصرّ أيضاً على توقيعها باسمه الكامل: غازي بن عبدالرحمن القصيبي، هي رواية عن الاحتضار الطويل الذي عاشه هو، مستخدماً قناع «بطله» الذي يدعى هنا «يعقوب العريان» والذي اختار له مرض «الزهايمر» ليعالج من خلاله هواجسه الوجودية. رواية قصيرة ما كاد القصيبي ينهيها حتى رحل، مطمئناً الى انها ستحمل الى قرائه مفاجأة جميلة وحزينة في آن. والرواية، وإن بدت مجتزأة من مشروع روائي لم يتمكّن القصيبي من إنجازه، قد تكون من أعماله الفريدة جداً لسبب واحد هو طابع الشهادة الذي يسمها. انها شهادة القصيبي على أيام المرض والعلاج، لكنّ كبرياءه أو كرامته حالت دون أن يمنح هذا النصّ صفة السيرة الذاتية فاختبأ خلف بطله «يعقوب العريان» ليسرد وقائع المرض والعزلة والمعاناة اليومية. ولم يكن اختياره مرض «الزهايمر» الذي أصاب يعقوب إلا هروباً نحو النسيان الذي يجعل الحياة شريطاً واهياً من الذكريات المتداخلة. اعتمد القصيبي فن «الرسالة» ليكتب هذه الرواية، فإذا هي عبارة عن اثنتي عشرة رسالة يكتبها «يعقوب» الى زوجته نرمين، من المصح الأميركي الذي يخضع فيه للعلاج من مرض «الزهايمر». لكن هذه الرسائل لن تصل الى الزوجة إلا بعد وفاته إثر جلطة في القلب، وقد أرسلها اليها طبيبه الذي يدعى الدكتور جيمس ماكدونالد من جامعة جورج تاون. وهذه الرسائل المتقطّعة لم تكن إلا ذريعة ليستعيد يعقوب (أو غازي) ملامح من الماضي وليواجه الحاضر إما بالسخرية منه وإمّا بالرثاء المضمر الذي يشي بنظرة وداعية أخيرة. في الرسالة الأولى يسعى الى الاعتذار من زوجته عن الكذبة التي اختلقها قصداً ليبرّر سفره للعلاج وكأنّه على يقين أنه لن يعود إلا جثة. والزوجة لن تكتشف هذه الكذبة البيضاء إلا بعد وصول الجثة والرسائل، فهي كانت تظن أنه في رحلة عمل طويلة. لم يشأ «يعقوب» إزعاج أحد بمرضه، لا زوجته ولا ابنه ولا الابنة. أراد أن ينهار وحيداً في لجّة النسيان والذكريات، وفي «أرض الماضي المحروقة» كما يقول. إلا أن أيام علاجه في المصح الأميركي لم تخل البتة من الطرائف التي يسردها لزوجته، وأبطالها مرضى أميركيون. أحد هؤلاء يتوهّم نفسه الرئيس الأميركي نيكسون وآخر هنري كيسنجر وآخر زوجاً للممثلة الشهيرة مارلين مونرو... انها طرائف أناس هم على حافة السقوط في عتمة الذاكرة، يهلوسون ويهذون... إلا أن الحياة في المصح لا تخلو أيضاً من الألم والكآبة، لا سيما عندما يجد المريض نفسه وحيداً، أمام مرآة مغبشة لا يبصر فيها صورته جيداً. يكتب يعقوب قائلاً: «أفكار حزينة قاتمة تنتابني» أو: «أعيش يومي لحظة بلحظة، ساعة فساعة». استطاع يعقوب أن يتذكر زواجه الأول من قريبة له أيام المراهقة، هذا الزواج الذي أجبر عليه قسراً لغاية عائلية. تذكر يعقوب أيضاً جدّه. تذكر امرأته نرمين يسري التي تصغره كثيراً وكيف تعرّف اليها في شرم الشيخ خلال مؤتمر مصرفي شارك فيه بصفته رئيساًَ لمجلس بنك «الدهناء»، وشاركت هي فيه كموظفة في بنك يملكه أبوها. يتذكّر «يعقوب» أشياء كثيرة وينسى أشياء أخرى كثيرة. ينسى اسم زوجته الثانية، بل ينسى إن كان تزوج مرة ثانية ويشك في الأمر. ينسى الأحداث الأولى في حياته: الفيلم الأول، الكتاب الأول، الحذاء الأول... «تزعجني ذكريات المرة الأولى لأنها تجيء ثمّ تتملص وتهرب» يقول. لكنه يتذكر جيداً كيف كان في طفولته يلعب «لعبة الموت» فيتظاهر انه مات ليخيف أهله. هذه الذكرى لم تفارقه، بل هي تلحّ عليه الآن في مرضه الذي دفع به الى حافة الفراغ: «بلا ذاكرة لا يوجد سوى الفراغ، فراغ الموت». ثم لا يتوانى عن مساءلة نفسه: «ألا توجد قوة تقهر النسيان»؟ ولا يضيره في أحيان أن يسخر من هذا المرض الرهيب فيسميه «الزهايمر المتلصّص» أو «العزيز ألزهايمر» وكأنه يستحضر الطبيب الألماني آلويس ألزهايمر الذي اكتشف هذا المرض العام 1906 وسمّي من ثم باسمه، كما يشرح لزوجته في إحدى الرسائل. ولعلّ أبلغ ما يصف به مريض «ألزهايمر» هو وصفه اياه ب «الخضار البشري». فشكل المريض «شكل إنسان» لكن عقله «عقل حبة طماطم أو كوسة أو بامية». هنا تبلغ السخرية ذروتها العبثية، المرّة والأليمة. ويتذكر يعقوب (غازي) تلك الجملة التي وضعها دانتي على مدخل «الجحيم» في «كوميدياه» الشهيرة: «يا من تدخلون هذا المكان اتركوا وراءكم أي أمل في الخروج». كأن هذا المرض هو جحيم أيضاً، جحيم العذاب والعزلة. ليس نص «الزهايمر» أقصوصة، ولا أحد يعلم لماذا أطلق القصيبي عليه هذه الصفة، مع انه يتعدّى مئة صفحة. هذا النص يمكن وصفه بالرواية القصيرة أو بالقصة الطويلة، وتكمن فرادته في تقنية السرد التي تلبست هنا فن المراسلة، وهذا فنّ عريق روائياً. وقد يشعر القارئ أن هذه الرسائل كتبت لتكون جزءاً من رواية تكمّل رواية «حكاية حب» من خلال مكابدة البطل نفسه (يعقوب العريان) حال الاحتضار والموت. ولعل القصيبي وجد في هذا البطل صورة لنفسه فحمّله معاناته وهذه الرسائل الموجهة الى قرائه. ومَن يطلع على المخطوط الذي يملكه الناشر اللبناني عيسى أحوش صاحب دار «بيسان» التي حصلت على حق النشر من القصيبي مباشرة، يلحظ كيف تمعّن القصيبي في كتابة النص وتقسيمه بدقة تامة. لعله شاءه فعلاً وصيته الأخيرة على فراش الموت.