لو حاولنا أن نضع الاغتصاب في سلّم الجرائم، لاحتل ومن دون نقاش قمة الجرائم اللاأخلاقية التي يرتكبها الإنسان وأكثرها بشاعة. فالجاني يعنّف ضحيته ويسلبها كل إرادة، فتُكره على أشنع السلوكات التي ستترك لديها أثراً جسدياً ونفسياً طوال حياتها. ومهما مرت السنوات، يبقى الاغتصاب شبحاً يطارد الضحية ويمنعها من استكمال حياتها والحصول على لحظات هانئة في عالم من السواد، خصوصاً إذا اختارت طريق الصمت وعدم المواجهة. وهنا صلب المشكلة، فكأن الجريمة الرهيبة التي ارتكبت لا تكفي ليأتي المجتمع ويرخي بثقله على الضحية: العائلة تطلب السترة، الأقرباء والغرباء يعيّرون الأهل بطريقة تربيتهم الفتاة، وعائلة المغتصِب تبحث عن الحل لكي لا يُحاكم ابنها. كلّها عوامل تشدّ الضحية أكثر فأكثر نحو القعر وتعيق أي محاولة لها لكي تكسر التقوقع الذي وجدت نفسها فيه بسبب جريمة تعرّضت لها. هكذا هي الحال في معظم جرائم الاغتصاب في لبنان، فعند انكشافها تبدأ محاولات اللفلفة وتغطية الأمور كأن الفتاة هي التي سارت في هذا الطريق واختارت لنفسها هذه الدرب المأسوية، وآخرها «جريمة» الاغتصاب التي قام بها ثلاثة شبان في شمال لبنان وكانت ضحيتها قاصر في سن ال16. فلولا تحوّل هذا الموضوع إلى قضية رأي عام ودعوى عزل والد الفتاة القاصر عن وصايته لابنته إثر تنازله عن حقّه الشخصي وإسقاط الدعوى بحق المتهمين الثلاثة، لكان تمّ التستر على الجريمة ودفع الفتاة إلى الزواج بأحد الشبان بهدف إغلاق القضية، كما يحصل في معظم الجرائم من هذا النوع. مواد ظالمة في استشارة قانونية أجرتها «الحياة»، يتبين أنّ هناك 3 مواد رئيسة يرتكز عليها للحكم حول جرائم الاغتصاب في قانون العقوبات اللبناني. أولاها المادة 503 التي تنصّ على الآتي «من أكره غير زوجة بالعنف والتهديد على الجماع عوقب بالأشغال الشاقة خمس سنوات على الأقل ولا تنقص العقوبة عن سبع سنوات إذا كان المعتدى عليه لم يتمّ الخامسة عشرة من عمره». ونصّ المادة 504: «يُعاقب بالأشغال الشاقة الموقتة من جامع شخصاً غير زوجه لا يستطيع المقاومة بسبب نقص جسدي أو نفسي أو بسبب ما استعمل نحوه من ضروب الخداع». وتمكن ملاحظة الفترة القصيرة للعقوبة من جهة، ومن ناحية أخرى أنّ الاغتصاب الزوجي غير معترف به قانونياً، وهذا ما تطالب الجمعيات النسوية بتعديله. لكن، مهما كانت فاعلية هاتين المادتين القانونيتين على صعيد مكافحة ظاهرة الاغتصاب، فالمشكلة تكمن في المادة 522 التي تنصّ على الآتي «إذا عقد زواج صحيح بين مرتكب إحدى الجرائم الواردة في هذا الفصل وبين المُعتدى عليها أوقفت الملاحقة. وإذا كان صدر الحكم بالقضية علق تنفيذ العقاب الذي فرض عليه». وهذه المادة هي الأخطر في حقّ المرأة، إذ تسقط فعل الجرم عن الاغتصاب وتؤكّد طابع التستّر عليه عبر الزواج الذي لا يمكن إلا أن نتصوّر وضع المرأة فيه، هي التي دخلت إليه مُغتصبة ومُكرهة. وإذا كان السؤال الذي طرحناه أساساً، هو ما الذي يدفع الفتاة المُغتصبة إلى الصمت؟ فإن المادة 522 من أبرز هذه الأسباب. فالضحية لا تصمت بإرادتها، بل يُفرض عليها في غالبية الحالات زواج ذو فشل متوقّع بهدف الحدّ من كلام الناس. وتكثر حالات الانفصال بعد فترة قصيرة من هذا الزواج غير الحقيقي، ما يزيد من حالة الضياع عند المرأة. خوف... لوم وتقوقع كيف يمكن كسر هذا «التابو» الذي يحيط بجريمة الاغتصاب لتكون معلنة لا يمكن القضاء إلا أن يحاسب عليها؟ لا شك في أنّ التعديلات القانونية للبنود المذكورة ضرورية، وهذا ما تطالب به الناشطات في الجمعيات النسائية منذ زمن طويل، لكن التغيير يبدأ من الضحية نفسها أولاً. فكما تشرح المحللة والمختصّة النفسية ناتالي فرح، أنّه في منطقة الشرق الأوسط عموماً وكذلك في بلدان أخرى عدة يعيش ضحايا الاغتصاب خوفاً كبيراً لأنّ المجتمع يدين، وموضوع الاغتصاب كلّه يجب التكتم عليه. فالمجتمع الذكوري يمكن أن يضع اللوم على الفتاة من ناحية ما ترتديه من ملابس وتصرّفاتها حتى لو لم يكن شيء من ذلك مبرراً، ما يعزّز من قوقعة الفتاة ورفضها التكلم واختيارها الصمت. والمشكلة الأكبر أن أقرب المقربين يمكن أن يشكلوا خطراً حقيقياً على الفتاة في هذه المرحلة الحرجة، فإذا كان المنزل العائلي خالياً من الحوار والتفهم لمشاعر أفراد الأسرة، يمكن توقّع ردود فعل سلبية مثل التعرّض للفتاة بالضرب أو حتى القتل أو القبول بتزويجها للتخلّص من العار. لهذه الأسباب كلها، تحتاج الفتاة في مرحلة ما بعد الاغتصاب إلى الحماية الكاملة وتأمين بيئة متفهّمة والتواصل مع معالج نفسي. فمن خلال العلاج، يمكنها مواجهة الواقع أولاً بدل الدخول في حالة الإنكار وكبت مشاعرها، ما يسهل عليها التكلم عما عاشته وتقبّل الموضوع لتجاوزه وخوض معركة حقيقية ضد المغتصب أو المغتصبين. وتساعد المعالجَة النفسية في التخلص من المشاعر السلبية التي تغمر الفتاة بعد الاغتصاب، والتي يمكن أن تدفعها إلى التفكير بالانتحار، وترتبط هذه المشاعر بالخوف من الأهل ونظرة المجتمع وحتى لوم النفس لو لم يكن هناك أي ذنب لها. وتلفت فرح إلى أن العلاج بالمجموعة مهم لتشارك التجارب، فتعرف ضحية الاغتصاب أنّها ليست وحدها، وأن هناك نساء مررن بالتجربة عينها وربما استطعن التغلّب على الصدمة التي يعشنها لكي يستعدن حياتهن في المرحلة التالية. أما الخيار الأسوأ الذي يمكن أن تقوم به الضحية فهو الصمت والاستسلام للواقع وتسليم الذات لقرارات العائلة وآراء المحيطين بها.