لا تنضب الدهشة والخيال والفرح من مسرح كركلا الذي حوّل مدينة بعلبك وقلعتها عرساً رسمياً وشعبياً أفتقدته مدينة هليوبوليس لسنوات. فالحضور السياسي ممثلاً بوزراء الداخلية والسياحة والخارجية، ونواب، ورؤساء بلديات ومحافظ بعلبك الهرمل، إضافة إلى الجهد الأمني المبذول والمشدّد على طول الطريق من بيروت إلى البقاع وفي محيط المدينة وعلى مداخل القلعة، وتطمينات وزير السياحة ميشال فرعون المتكررة، تؤكد أن إعادة بعلبك إلى الخريطة الحكومية السياحية والأمنية والثقافية تحتاج إلى قرار سياسي ويبدو أنه من السهل اتخاذه لتعود الشمس إلى بلاد الشمس. لكن العيد الستين للمهرجانات التي أسست بقرار رئيس الجمهورية اللبنانية كميل شمعون عام 1956، مرّ للعام الثاني على التوالي من دون راعيه الرسمي في غياب رئيس للجمهورية... الدهشة والخيال والفرح، طبعت افتتاح المهرجانات أول من أمس، وهي بدت واضحة من ردود فعل 3300 شخص غصّ بهم مدرج معبد باخوس، خصوصاً أهالي بعلبك الذين بدوا فخورين بمهرجانهم هذه السنة أكثر من كل سنة، وبابن بعلبك عبدالحليم كركلا. الدهشة والخيال والفرح هي أيضاً مثلّث رافق أعمال هذه العائلة الفنية البعلبكية (الأب عبدالحليم والابن إيفان والابنة أليسار) لتنهل منه عراقة وتاريخاً وحداثة مشهدية ساحرة، تحاكي أعمدة مدينة هليوبوليس. وفي كل مرّة نسمع عن عرض جديد لكركلا، نتساءل ما الذي سيقدّمه مؤسّس أول مسرح لبناني راقص وصاحب «اليوم وبكرا ومبارح» (أول عمل لعبدالحليم كركلا العام 1972) وجال العالم بعروضه المبهرة؟ فكيف إذا كانت المناسبة الاحتفال بالعيد الستين لأعرق مهرجانات المنطقة العربية التي عانت في السنوات الأخيرة بسبب الوضع الأمني في المنطقة وغياب التمنية، والخصوصية الجغرافية المتاخمة للحدود السورية؟ أرادت إدارة لجنة المهرجانات دورة مميزة هذه السنة، فعملت على برنامج مميز افتتح ليلة أول من أمس بعرض كركلا «إبحار في الزمن: طريق الحرير»، ويكمل في حفلات استثنائية مع جان ميشال جار وميكا وليزا سيمون وجوزيه فاندام وبوب جايمس كوارتر وعبير نعمة. وأصرّ كركلا برفقة إيفان وأليسار وأكثر من 150 راقصاً وممثلاً ومغنياً من لبنان والصين والهند وإيران، أن يكون هذا التميّز بعمل يعتبر الأضخم في تاريخ الفرقة كما يؤكد إيفان، ليُعيد إلى بعلبك مجدها. مهرجانات بعلبك من دون عرض لكركلا تبقى ناقصة، وعروض كركلا على مسارح العالم كلها لا تضاهي عروضه في مدينة جوبيتير. فهي علاقة وطيدة بالمكان الساحر والعريق الذي يُبحر بك إلى حضارات العالم، بمجرّد المشي بين أعمدته ومعابده. لذا أراد مسرح كركلا أن تبدأ رحلة الشاب تيمور (سيمون عبيد) مواجهاً جوبيتير (رفعت طربيه) من مدينة هليوبوليس في الزمن الحاضر، بعرس تقليدي يبدأ بصوت الراحل سعيد عقل الهادر، ويكمل مع الأغاني التقليدية، مجتازة طريق الحرير القديمة التي تسلك عشرات البلدان. لكن إيفان أرادها أن تسلك طريق بعلبك إلى عُمان ثم إلى الهند وصولاً إلى بلاد فارس والصين والبندقية، لتعود إلى بعلبك بملحمة تاريخية تجتمع فيها حضارات هذه البلدان على مسرح معبد باخوس. سبع لوحات حالمة ملوّنة مزركشة مرسومة بسينوغرافيا الأب عبدالحليم وتصميمات الأزياء المنسوجة من تراب حضارات طريق الحرير وأشجارها وصحاريها وبحارها وحريرها وقصبها وخرزها وأدوات الزينة الخلابة. سبع لوحات أخرجها الابن إيفان، وصمّمت الكوريغرافيا لها الجميلة أليسار، فاتّحدت الجهود لأجل بعلبك وناسها وضيوفها، لتُبحر بهم جميعاً في حلم مشهدي مزركش تنعم العين بإبداع راقصيه اللبنانيين والآتين من الهند والصين وإيران، وتُطرب الأذن بأغانيه وأصوات فنانيه الرخيمة (هدى حداد، جوزيف عازار، إيلي شويري وهادي خليل ومغنين أيضاً من الهند والصين وإيران)، ويُجذب العقل لحوارات ممثليه وأدائهم (رفعت طربيه، غبريال يمين، سيمون عبيد، نبيل كرم، علي الزين، ألكو داود، وروميو الهاشم). لوحات شكّلت الشاشة الثلاثية الأبعاد في خلفيتها، جزءاً مبهراً وقوياً من الديكور المرّن (يتغيّر وفق الرحلة) الذي استقدم من إيطاليا حيث يصمّم المخرج الإيطالي الشهير فرانكو زيفيرللي أعماله المسرحية. هذه الشاشة المقسمة إلى أعمدة كأعمدة بعلبك، شكّلت امتداداً للرحلة البعلبكية عبر الزمن، إذ تلتحم صورة البحارة في شاطئ العرب، والخيالة على صهوة الجياد في الصحارى القاحلة والوديان، وغندرة الجِمال، مع اللوحات أجساد الراقصين المرنة المتطايرة كالفراشات الملوّنة الرشيقة. ولكن على قدر جمالية صورة هذه الأفلام التي نقلتنا في نهاية العرض إلى سنوات المهرجانات الستين وأيام عزّ الحفلات، كان يمكن اختيار مكان آخر لتركيبها إذ حجبت الأعمدة الرومانية التي كان يمكن الاستفادة منها كجزء من الديكور. هذه الرحلة الحالمة جُمع لأجلها مثقفون كثر مثل الشاعر طلال حيدر والموسيقي محمد رضا علي غولي والأديب نسيب أبو ضرغم والممثل جورج خباز (كتب كلمات العرس التقليدي والدلعونا) والموسيقي الصيني ها سيلو والموسيقي الهندي فيدي شارما وأحسن علي، فبدت فعلاً نقطة حوار دولية، يمكنها أن تحمل إسقاطات على الوضع السياسي المحلي والعالمي اليوم في ظل تهديدات تنظيم الدولة الإسلامية خصوصاً عندما يقول أحد الممثلين: «خلينا نتلاقى على الجايي حتى ما ينسانا الزمان، لازم نشتغل ليل نهار وأولنا الوالي والمختار، هيك رحلة بدها رجال وشجاعة... وحدو الحق بيبقى عطول». تلك الغمزات في العرض انتهت بملحمة بعد عودة الرحالة إلى مدينة الشمس، لتسطع لغة المحبة والعتابا والدلعونا وأشعار الشيرازي وابن الرومي وعمر الخيام. ولا يحلو الختام إلا بدبكة بعلبكية مميزة من عمر كركلا الأخ الأكبر للمسرح العريق، الذي يتحدى زمن عمره السبعين بجسد شاب قوي ورقص ميثولوجي إذا صحّ التعبير. وهكذا تحوّل المسرح كرنفالاً غنائياً راقصاً. وكرّمت بعلبك بشخص محافظها بشير خضر صاحب المسرح ومؤسسه عبدالحليم كركلا بدرع تقديرية.