نائب أمير الرياض يُشرف حفل السفارة الأمريكية بمناسبة ذكرى اليوم الوطني    7 مليارات ريال تمويل القروض الزراعية    7.7 مليار ريال أثر مالي لكفاءة الإنفاق بهيئة تطوير المنطقة الشرقية    1.2 مليار ل61 مصنعا غذائيا    "جامعة جدة" تحتفي بأبطال المبارزة في بطولة المملكة للمبارزة SFC    فريق عمل مشروع توثيق تاريخ كرة القدم السعودية ينهي أعماله    بنزيما يحظى بإشادة عالمية بعد فوز الاتحاد على الاتفاق    المصادقة على مشروع توثيق تاريخ كرة القدم السعودية    اقتران بين الهلال وزحل.. الجمعة    "هيئة الأدب" تدشن جناح مدينة الرياض في معرض بوينس آيرس الدولي للكتاب    عالم خلف العدسات نعرض حياتنا لا نعيشها    بائع البوظة يؤكد تهافت الرواية التاريخية    مؤتمر مكة منصة لتجديد الخطاب وتعزيز القيم الإنسانية    ما الأقوى: الشريعة أم القانون    موجبات الولادة القيصرية وعلاقتها بالحكم الروماني    السودان: مدينة الفاشر.. «جحيم على الأرض»    تحذيرات من الإفراط في التفاؤل بالمفاوضات الإيرانية الأمريكية    أوكرانيا وروسيا على مفترق طريق بين الحرب والسلام    مركز الدرعية لفنون المستقبل يفتتح معرض"مَكْنَنَة"    «الثقافة» توقع اتفاقية مع «تيك توك» لدعم القطاع الثقافي    إرهاب الاحتلال يمتد إلى الركام    أمير الشرقية يرعى حفل تخريج الدفعة ال 46 من طلاب جامعة الإمام عبد الرحمن    ولي العهد ورئيس الوزراء الهندي يرأسان مجلس الشراكة الإستراتيجية    بدءاً من الغد.. منع دخول المقيمين إلى مكة دون تصريحي عمل أو حج    «البلسم» تجري 138 عملية ناجحة في سوريا    "فريق جامعة أم القرى يتصدّر هاكاثون الجودة الأكاديمية"    رئيس المالديف يستقبل البدير    مدير عام التعليم بالطائف يلتقي بفريق مشروع التحول بالوزارة    غرفة عمليات لاستقبال ومعالجة بلاغات الاحتيال المالي    محافظ الطائف يطلق ملتقى أفهموني لدعم أطفال وأسر التوحد    أمير تبوك يستقبل القنصل العام لجمهورية أفغانستان لدى المملكة    أمير تبوك يستقبل المواطن ناصر العسيري الذي تنازل عن قاتل شقيقه    رئيس مجلس الشورى القطري يصل الرياض    محافظ أضم يدشن فعاليات أسبوع البيئة تحت شعار "بيئتنا كنز"    بنزيمة يكشف سر التوقف عن تنفيذ ركلات الجزاء    الغنام : "الأمن السيبراني" ضرورة لحماية منظوماتنا ومجتمعاتنا من التهديدات المتجددة    تقنية الأحساء تطلق برنامج "سواعد تقنية 2025"    نائب وزير الخارجية يستقبل مساعد وزير الخارجية مدير عام إدارة الشرق الأوسط وأفريقيا بوزارة خارجية اليابان    تعليم الشرقية يحقق مراكز متقدمة في ملتقى "الربيع" التدريبي 2025    أمير منطقة جازان يشرّف حفل أهالي فرسان    الرئيس العام للهيئات يلتقي منسوبي فرع المدينة المنورة    رئيس وزراء جمهورية الهند يصل جدة في زيارة دولة للمملكة    قطاع ومستشفى النماص يُنفّذ فعالية "يوم الصحة العالمي"    قوميز: مواجهة الرياض "نهائي جديد".. ونركز على التفاصيل والخروج بأفضل نتيجة    تمكين الأوقاف تحتفي بتخريج الدفعة الأولى من الزمالة المهنية في الأوقاف    ارتفاع النفط إلى 66.62 دولارًا للبرميل    الأمن العام يحذر: الرسائل المجهولة بداية سرقة    مُحافظ وادي الدواسر يفتتح دراسة مساعدي مفوضي تنمية القيادات    رأس الاجتماع الدوري للجنة السلامة المرورية بالمنطقة.. أمير الشرقية: القيادة الرشيدة حريصة على رفع مستوى الأمان على الطرق    رائد فضاء يعود في يوم عيده ال70 إلى الأرض    ظاهرة الكرم المصور    تجربة تنموية مميزة ودعم لاستقرار الاقتصاد العالمي.. السعودية والهند.. شراكة اقتصادية إستراتيجية وفرص واعدة للاستثمار    انطلاق معرض الصقور والصيد السعودي في أكتوبر المقبل    فوائد اليوغا لمفاصل الركبة    قطاع ومستشفى البرك يُنفّذ فعالية "خطورة استخدام المضادات الحيوية"    قطاع ومستشفى بلّسمر يُنظّم فعالية "اليوم العالمي لشلل الرعاش"    محميات العلا.. ريادة بيئية    أمير الرياض يضع حجر الأساس لمشروعات تعليمية في جامعة الفيصل بتكلفة تتجاوز 500 مليون ريال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش للكتابة - «محنة» نصر أبو زيد في دلالاتها (3)
نشر في الحياة يوم 28 - 07 - 2010

لعلّ الدلالة الثانية التي يمكن أن نقرأها في محنة نصر أبو زيد، مؤداها أن لا علم حقاً ولا تجديد أصيلاً، مع تصاعد تيارات التطرف الديني التي تتخلل كل جوانب المجتمع، ومنها الجامعة. وهي التيارات التي لا تقف منها الحكومة المصرية على الأقل موقفاً حاسماً، وإنما تأخذ موقفاً مائعاً، يؤدي إلى تفاقم الأمور، وتساقط شعارات الدولة المدنية واحداً بعد الآخر. ويحدث ذلك والدولة المدنية (؟!) لا تحرك ساكناً إزاء الانتهاك الواضح لكل أشكال الفكر التي تدافع عن وجود الدولة المدنية وقيمها العقلانية الحديثة ضد أعداء هذه الدولة من دعاة الدولة الدينية التي لا تخلو الدعوة لها، أو الأجهزة الأيديولوجية لقواها القائمة من التعصب والرغبة في تديين كل ما يحيط بها. وهذا أمر لا ينتهي إلى تدمير الدستور والقانون البشريين، على أساس من مبدأ الحاكمية لله، وإنما يؤدي إلى إشاعة مناخ من التعصب المرتبط بفرض الإجماع على ما يهبط من الصفوة الحاكمة باسم الله، والمحتكرة الحديث باسمه، والآخذة صفات من القداسة التي لا تفرض مبدأ التصديق على الجميع. بل تجعله مبدأ معدياً، ينقل التقليد من الأعلى إلى الأدنى، ومن الأدنى إلى ما جاوره أو أحاط به. والنتيجة هي شيوع قاعدة النقل بما ينفي العقل، وبما يجعل الابتكار كالتجديد، والخروج على الجماعة خروجاً على العقيدة نفسها. والنتيجة هي تقليص مدى الابتكار والتجديد والتجريب، خصوصاً حين يقترن كل منها ببدعة الضلالة التي لا تفضي بصاحبها إلى النار في الحياة الآخرة فحسب، وإنما القمع الواقع في الدنيا، على هيئة نوع من الاستئصال المادي أو المعنوي. وذلك استناداً إلى أقوال من مثل «قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم»، و «إن الشيطان مع الواحد»، و «الشيطان مع من يخالف الجماعة» و «قف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكفّ عما كفوا، واسلك سبيل السلف الصالح»، و «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، و «ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد عن الله عز وجل بعداً»، و «النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة. وينهى عن البدعة، عبادة»، و «البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يثاب عنها، والبدعة لا يثاب منها».
ما الذي تعنيه هذه المأثورات التي تغلغلت في النفوس والقلوب والعقول؟ ومعروف أن أجهزة إعلام وفضائيات أشاعتها ضمن أدوات أيديولوجية بالغة القوة، تدعمها أموال تنهمر عليها من حيث ندري ولا ندري. إن النتيجة الأولى هي كراهية إعمال العقل وإيثار التقليد، فقدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم العاجز الذي ليس من أفعال التفكير، وإنما من أفعال المحاكاة والسير حيث سار كبار المشايخ أو الولاة الذين أسلمناهم أمر ديننا، وتركنا لهم الاجتهاد في أمور دنيانا ومعاشنا الذين هم أدرى به بحكم ما نسبناه إليهم من علم، على سبيل التسليم لا المساءلة. وذلك من غير أن نسمح للعقل أن يمتحن ما يقولون حتى يطمئن القلب، والنتيجة هي التوقف عن الإبداع بكل أنواعه وكل مجالاته. فالإثم الخروج على السائد مهما كان الخروج مبرراً عند العقل، ولا ابتكار مع مثل هذه المأثورات الشائعة. والعاقل من المفكرين أو الباحثين هو من وقف حيث وقف الذين سبقوه، وتناوله من دون خروج عليه أو تمحيص له، وتقبل التسليم والتصديق. فالإضافة هي اتّباع لما سبق وشرح وتعليق أو تعقيب. إذاً، فلا جديد في الفكر أو العلم، فما نقول إلا معاداً، بعد أن سبقنا القدماء إلى كل شيء، ولا منجاة لنا إلا بالقياس على ما قالوا، ومحاكاته والعمل على منواله.
هكذا يرضى المفكرون أهل السلف الصالح الذين ذهبوا بالعلم كله، وتركوا لنا القشور. لذلك ذهب ابن رجب الحنبلي إلى أن العلم في نقصان، وأن الفضل فيه للسابقين لا للاحقين. ولا تقل إن الدنيا تتغير، أو أن تقدم العالم يفرض علينا مراجعة كل شيء، وإعادة فتح أبواب الاجتهاد على مصاريعها، فلا تغير على سبيل الحقيقة ولا تقدم. فالتاريخ نفسه كالساقية التي تتحرك إلى الخلف دائماً، ومصدر قوتها في مبتدأ حركتها التي تضعف كلما تباعدت عن نقطة المبتدأ. لذلك، لا جديد تحت الشمس إلا سيرنا صوب الغروب الذي يعيدنا ليله إلى نقطة مبتدأ النور. وماعدا هذا الفهم بدعة ضلالة، فامضِ وراء السلف الصالح، أيها المفكر، كي تكون صالحاً، وتنجو من بدع الضلالة وما بعدها، والزم التقليد لا الاجتهاد، فما ازداد صاحب فكر جديد اجتهاداً إلا زاده الله ضلالة وبعداً من جنته.
والنتيجة الاغتراب الكامل للعقل، ومطاردة الفكر الذي يريد أن يعيد مساءلة الأشياء، والمحن التي أصابت المفكرين، ابتداء من المعتزلة الذين ارتكبوا الجريمة الأولى بفرض رأيهم في خلق القرآن بسلطة الخليفة المأمون والمعتصم والواثق، مروراً بالحنابلة الذين سمّوا أنفسهم أهل السلف، أو أهل السنة والجماعة. وهم الذين ثأروا من المعتزلة أبشع ثأر، ولم يكتفوا بذلك، بل ساعدتهم الظروف التاريخية وتوالي المخاطر الخارجية على أن يكون رأيهم السائد. فحرق متعصبو منصور بن أبي عامر كتب الفلسفة، ودفنوها في الآبار، تطهراً من إثمها هي وكتب العقل. وتواصل اتجاه التقليد إلى أن ساد في المشرق والمغرب، فَحُرِقَ كتابُ «إحياء علوم الدين» للغزالي، وتكرر حرق كتب الفلسفة والاعتزال عبر القرون اللاحقة مع غزو المغول والتتار. وكان الحرق يتم في ميادين القاهرة، ويقوم قضاة السلف بتعزير المتهمين بالتفلسف أو العقلانية، وظل الأمر على هذا الحال إلى أن قامت النهضة الحديثة، فاختلف الأمر.
ولكن ظل التعصب السلفي قائماً في العنف السلفي الذي قاومه الشيخ حسن العطار، أستاذ رفاعة الطهطاوي، والشيخ محمد عبده الذي حدثنا بمرارة عن غفلة المتعصبين، وعن ذلك الشيخ الذي جرى وراء زميل له بالحربة لأنه خالفه في الاجتهاد. وبعد الشيخ محمد عبده الذي مثل عقلانية الفكر الديني الحديث، جاءت ظلامية تلميذه محمد رشيد رضا الذي استهل حملات التكفير، فناصب الجامعة العداء، ونجح في إثارة الأزهر على الشيخ علي عبدالرازق الذي طردوه من القضاء، لا لشيء إلا لأنه أكد أنه لا يوجد نظام سياسي محدد في الإسلام، وأن الشريعة تركت للمسلمين اختيار النظام الذي يحقق الفائدة لهم.
وبعد علي عبدالرازق جاء دور الجامعة التي استهلت المحن الحديثة بقضية منصور فهمي الذي أُجبِرتْ على طرده منها، وإلغاء أطروحته التي حصل عليها من جامعة السوربون عن «المرأة في الإسلام» لأنه «خرج على المعلوم من أمر الدين بالضرورة». وهي الكلمات نفسها التي تكررت بعد ذلك مع حالة علي عبدالرازق في الأزهر، وبعده طه حسين في الجامعة مع محنة كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي صدر في آذار (مارس) 1926 بعد أقل من عام على صدور كتاب صديقه علي عبدالرازق. ومن طه حسين إلى الشيخ محمد أبو زيد، وهو ليس قريباً لنصر أبو زيد، وقد انهالت عليه تهم التكفير وصودر التفسير الذي كتبه، أو أعدم، عام 1930. ومن محمد أبو زيد، إلى المرحوم أحمد محمد خلف الله الذي طرد من الجامعة، وألغيت أطروحته للدكتوراه عن «القصص الفني في القرآن الكريم» في الأربعينات. وبعده في الخمسينات جاء الشيخ عبدالحميد بخيت الذي اجتهد اجتهاداً مخالفاً في مسألة الصوم فطلب له «المكفراتية» ما طلبوه لنصر، فكتب عنه طه حسين مقاله الشهير «حق الخطأ» في جريدة «الجمهورية» عام 1955، وأنقذ الرجل مما أعدوه له.
ويأتي دور نصر أبو زيد مع التسعينات في نهاية السلسلة المتصلة، فمحنته ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. ويستوي في ذلك الجامعة وخارج الجامعة، فالتضييق على من يعملون عقولهم، ويجتهدون في كل مجالات الإبداع والفكر أصبح سنّة غير حميدة، وقاعدة مضطردة مع اضطراد تيارات التعصب الديني المقرونة بتصاعد دعاوى الدولة المدنية. وإذا أضفنا إلى ما حدث لنصر أبو زيد ما حدث بعده لمارسيل خليفة عندما غنى «أنا يوسف يا أبي» في لبنان ورواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» في مصر، وما جرى لصديقنا أحمد البغدادي في الكويت التي منعت، بعد أن سمحت، دخول نصر لإلقاء محاضرة في الكويت، تحت ضغط جماعات التعصب الديني، ومحاكمة ليلى العثمان وعالية شعيب في الكويت كذلك، ومساءلة وزير الإعلام فيها عن سبب دعوتي إلى الكويت، فضلاً عن القضايا التي رفعت على يوسف شاهين وعبدالمنعم رمضان الشاعر، وعاطف العراقي أستاذ الفلسفة، وعشرات غيرهم على امتداد العالم العربي. أقول إذا وضعنا كل هذه الأسماء في اعتبارنا، أدركنا أن محنة نصر أبو زيد هي محنتنا جميعاً، وهي محنة الثقافة العربية الحديثة التي أصابها في عقلها فيروس خطر. كذلك الذي أصاب «مخ» نصر أبو زيد الذي رأيت فيه «مخ» الفكر العربي وعقله الذي لا أجد ما يناسب وصفه، في محنته الحالية، أفضل من أبيات أمل دنقل في قصيدته «سفر التكوين» حيث يقول: «أصبح العقل مغترباً يتسول، يقذفه صبية/ بالحجارة، يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب/ منه الحكومات جنسية الوطني وتدرجه في/ قوائم من يكرهون الوطن/ سقط العقل دورة النفي والسجن حتى يجن/ ورأى الرب ذلك غير حسن».
وأنا أتوقف، دائماً، عندما تخطر هذه الأبيات على ذهني على الإسلام الأصيل السمح الذي نشأت عليه صغيراً، وتدبرت نصوصه كثيراً. أتذكر القيمة الرفيعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى للعقل، حين أمرت نصوص القرآن بالتدبر والتفكر، بل حتى المراجعة والتساؤل والشك. أحياناً وتلح على ذهني، كلمات «التفكر» و «التدبر» و «التعقل» و «البصر» «الإبصار» بمعنى الفهم والإدراك في الآيات القرآنية، من مثل: «أفلا تعقلون» و «لقوم يعقلون» و «إن كنتم تعقلون» و «أفلا تتفكرون» و «لعلهم يتفكرون» و «لقوم يتفكرون» و «أفلم ينظروا» و «أفلا تبصرون»... وكلها وغيرها إشارات دالة على إعمال العقل. ولن أنسى ما نزل على النبي آية تنفي عن نفسه ما ساورها من قلق «ما ودعك ربك وما قلى» ولم يكن من المصادفة أن نتوارث مبدأ الإصابة على الاجتهاد في كل الأحوال، وهو مبدأ لا يعني أن حق الخطأ مكفول بوصفه مبدأ إسلامياً فحسب، وإنما يعني أن التفكير نفسه فريضة إسلامية كما ذهب العقاد. وما أصدق نصر أبو زيد عندما أعلن، تأسيساً على ذلك، شعاره «أنا أفكر، فأنا مسلم». ولذلك لم يخشَ الخطأ في الاجتهاد، بل مضى فيه بجسارة، مؤكداً حقه في ممارسة الاجتهاد، وحقه في الخطأ على السواء، غير خائف من الخطأ، لأنه كان يطلب من العقلاء محاورته وتصويبه إذا أخطأ، متصوراً، بل واهماً، أنهم يؤمنون بما سبق أن قاله ابن مالك من أنه إذا ورد قول من قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً، والإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان ولم يحمل على الكفر. وتوهم نصر كذلك أن الذين سيقرأونه، لا بد من أن يحملوا اجتهاده محمل تقدير الاجتهاد بوصفه رأياً قابلاً للخطأ والصواب، عملاً بالمبدأ القائل: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب». لكنّ نصر كان واهماً، فالعقل الإسلامي كان قد غرق، مجبراً، في المدار المغلق للتقليد ومعاداة الاجتهاد، خصوصاً في مجال الخطاب الديني الذي خلط أهل التقليد والتعصب بينه وبين الدين، فلم يكونوا، ولا يزالون، يدركون أن نقد الخطاب الديني هو نقد للخطاب البشري عن الدين، أو نقد لطرائق تعقلنا الجامد للدين، حيث لا يوجد تعقل ولا تدبير للأسف، ولا تسامح، خصوصاً بعد أن أصاب «مخ» هذا العقل الإسلامي الفيروس الخطر الذي هو القاتل الفعلي لنصر أبو زيد، بعد أن طورد العقل في الثقافة العربية، وانهالت عليه سهام التكفير وحرابه الملوثة بالفيروسات القاتلة التي أصابت نصر أبو زيد. وهي تسعى إلى إصابتنا جميعاً ما لم ننتبه، وما لم نقف ضد هذا الوباء الذي لن يبقي على قيمة إيجابية بأي معنى من المعاني وفي كل مجال، فهل نتحد جميعاً، وننسى اختلافاتنا، ونتصدى لهذا الوباء بأمصال الوقاية واحترام الاجتهاد، وحق الخطأ، وقبول الاختلاف بوصفه الطبيعة الحتمية للثقافة التي لا يمكن أن تقوى وتثرى إلا بالتنوع. وكفانا ضحايا، وحسبنا محنة نصر التي هي محنتنا جميعاً، في هذا المدار المغلق الذي وصفه نصر بأنه مدار «التفكير في زمن التكفير».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.