في عام 1978 عرض المخرج الشيلي ميغيل ليتين فيلمه «اللجوء الى المنهج» المقتبس عن الرواية المعروفة بالاسم نفسه للكاتب الكوبي اليخو كاربانتييه. تم إنتاج الفيلم بالاشتراك بين كوبا وفرنسا والمكسيك. وهي البلدان الثلاثة التي تم تصويره فيها، ليستغرق عرضه في نهاية الأمر ما يزيد على الساعات الثلاث، من دون أن يكون في هذه المدة الزمنية الطويلة، ما من شأنه أن يبث في قاعة العرض أي لحظة من الملل. فعلى رغم بعض البطء غير العادي في مشاهد معينة فيه، بدا الفيلم بسيطاً مترابطاً في تعبيره عن، ومرافقته لفصل طويل من حياة ديكتاتور وهمي أبدعته مخيلة الأديب الكوبي وكاميرا المخرج الشيلي، ولكن بالاستناد الى عشرات الصور والأسماء والحقائق التاريخية ذات العلاقة بعدد من الذين حكموا، وما زالوا يحكمون، بلداناً عدة في العالم الثالث. وفي أميركا اللاتينية في شكل خاص. الفيلم إذاً، يغوص، عبر قالبه الروائي في صلب قضية السلطة والجماهير، السلطة والتحديث، والسلطة والتخلف وهو - الى هذا - يقدم صورة ساخرة ومريرة في آن معاً، لما يكمن خلف ما اصطلح على تسميته ب «البلاغ رقم واحد». يبدأ الفيلم وينتهي في شارع تيلسيت في باريس، باريس العهد الذهبي. وتفتتح الصورة الأولى، كما يقفل المشهد الأخير على وجه «الرئيس الأعلى»، رئيس احدى الدول في أميركا اللاتينية، الراعي الفلاح، الذي حدث أن قاده البلاغ رقم واحد، الى قصر الرئاسة في بلده بعد أن توصل - في شكل من الأشكال - الى قيادة الجيش. غير أن الرئيس إنسان متنور محب للفنون والآداب، وللجنس اللطيف، وهذا ما يجعله مفضلاً قضاء القسط الأعظم من وقته الثمين في باريس، عاصمة النور والفكر والإشعاع، وهو إن كان قد قرر العودة الى بلده بناء على استدعاء الدولة له للتصدي لانقلاب عسكري مغامر، فإنه يفعل هذا وهو مثقل القلب حزين. لذا يعود سريعاً، ويقضي على الثورة الأولى، وعلى الانتفاضة الثانية والثالثة التي تصحبها مذبحة كبيرة في مدينة «نوفا كوردوبا»... وهو في انتصاراته هذه، يعتمد دائماً على جبروت وإخلاص قائد جيشه الجنرال هوفمان. وهوفمان هذا، ذو ولاء عجيب لا يخيب. ومن هنا، لا يشعر الرئيس الأعلى بأدنى خوف حين يطلب منه مجلس الوزراء، بعد مذبحة «نوفا كوردوبا»، التوجه الى باريس للاستجمام، بل يرحل راضي النفس مطمئناً، قبل أن تصدمه في العاصمة الفرنسية، المفاجأة الأولى: لقد وجد هنا، زهور المجتمع الفني والثقافي، كل أولئك الذين يحبهم ويغدق عليهم نعمه، يولون له ظهر المجن... في الوطن لا يحتاج الرئيس الأعلى الى جهد كبير للقضاء على مساعده المتمرد ذي الأصل الجرماني. وانتصاره هذا، يواكبه ارتفاع في أسعار المواد الأولية يغدق على البلد رخاء ما بعده رخاء، فكان لا مفر من بناء «كابيتول» جديد في قلب العاصمة... وخيم الازدهار، غير أن هذا لم يمنع القنابل من الانفجار والاغتيالات من التكاثر والمناشير من الانتشار. فيضطر الرئيس الأعلى، نور العلم وبحره، إلى إقفال الجامعة بقوة السلاح. كما يضطر وهو الأديب المتأدب المنير المتنور، الى إصدار أوامره بإحراق الكتب الحمراء، وإغلاق المكتبات. ويسير هذا الإجراء جنباً الى جنب مع انتهاء الحرب العالمية، وبالتالي هبوط أسعار المواد الأولية... هذه المرة يكون التمرد ذا شكل جديد... يقوده طالب قادر على تهييج الجموع، وعلى رغم انتصار الرئيس الأعلى على تحرك هذا الطالب وجماعته، إلا أن الثورة تمتد في البلاد، الى درجة تجعل السفير الأميركي يهرع الى القصر لحضّ الرئيس على الرحيل، فيجمع هذا كل ما تحت يديه من جواهر وأموال، ويتنكّر في زي رجل جريح، ويترك المدينة برفقة مربيته وبعض صحبه. وهكذا، نصل معه مجدداً الى باريس، عاصمة النور والثقافة والإشعاع، حيث يصل الى فندق فاخر، ويفاجئ ابنته الشابة تحتفل بعيدها مع صحبها... وهؤلاء جميعاً يرافقون الرجل الكبير، بالرقص والغناء حتى سريره المعلق... وبعد هذا تمضي الأيام والليالي، حيث يرتاح صاحبنا الى مصيره، ويستعيد ذكرى طفولته وأحلام صباه. ولكنه ذات صباح... على غير عادته، لا ينهض من سريره... لقد مات... هكذا وبكل بساطة وراحة بال. لقد تمكن ميغيل ليتين، وإن بحدود، من أن ينقل الى الشاشة ظرف أسلوب اليخو كاربانتييه وسحره... فلم يقدم الرئيس الأعلى، كما اعتادت الأفلام المشابهة أن تفعل: جباراً، دموياً، طاغية لا يرحم... بل هو أمامنا، انسان من لحم ودم، بحر علم وثقافة، يعشق الفن والأدب، والحداثة، ويكره الجهل والأمية والغباء. والواقع ان القارئ تاريخَ أميركا اللاتينية لن يفوته أن يلاحظ ذلك التزاوج الذي قام على الدوام في بلدانها، ولدى ديكتاتوريي هذه البلدان، بين عشق الحضارة والطغيان، بين الرغبة في التحديث وانجاز المجازر، بين الالتفات صوب أوروبا العلم والثقافة، والقسوة الدموية. والمخرج ركّز العملية الدرامية كلها، حول شخصية الرئيس: صوره في حفلاته الخلاعية، وفي جلساته مع العلماء والفنانين، صوره وهو يغوص في موسيقى الأوبرا، تماماً كما صوره وهو يصدر أوامره بارتكاب أفظع المجازر. وإذا كان العنصر الحدثي الروائي قد غلب على العمل، فإن التحليل والموقف السياسي قد تبديا بوضوح من خلال التصوير الجيد والمتميز لشخصية الرئيس: الرئيس المتنور الذي سرعان ما سينبذه المستفيدون منه من أدباء عاصمة النور، ما إن ينتهي مجده... من هنا، لم يفت المخرج أن يظهر شخصيته في صورة مؤثرة بين الحين والآخر، ولقد ساعده على هذا، التمثيل المتميز والفذ لنلسون فيلاغرا، الذي قام بالدور، وهو ممثل شيلي يعيش حالياً في كوبا. فلقد استطاع فيلاغرا أن يجسد شخصية الديكتاتور، بحيث إن المتفرج على الفيلم، يشعر وكأنه حقاً في حضرة واحد من الطغاة الحقيقيين الذين عرفتهم أميركا اللاتينية. صحيح أن هؤلاء الطغاة، يشبهون صاحبنا، لأنهم زامنوه... وصحيح ان سنوات طويلة قد مضت منذ تلك الأيام، سنوات تجعل كاتباً مثل كاربانتييه، ومخرجاً مثل ليتين، قادرين على تفادي الوقوع في فخ المعالجة المانيكية للأحداث، ولكن، لا بد من التساؤل مع مخرج الفيلم: هل حقاً مضت تلك الأيام؟ وهل حقاً انتهى عهد أولئك الطغاة المتنورين. على هذا التساؤل يجيب الواقع المعيوش: ربما انتهى عهد الطغاة المتنورين حقاً... ولكن من المؤكد أن عهود الطغاة غير المتنورين لم تنتهِ، وحسبنا نظرة على الخريطة السياسية الراهنة لأميركا اللاتينية، من باراغواي الى الأرجنتين... الى شيلي بينوشيت. وعلى أي حال، لن يكونوا مخطئين أولئك الذين سيصححون قائلين: ليس الأمر وقفاً على قارة أميركا اللاتينية وحدها، فأفريقيا وآسيا، تعرفان الكثير من النماذج المشابهة، وليس الذنب ذنب أحد إذا كانت باريس عاجزة الآن، بعد أن ولى عهد إشعاعها الذهبي، عن أن تكون قبلة علم تضيف الى ألقاب الطغاة، ألقاباً وصفات، ذات علاقة ما، بالتنور والإشعاع. وربما في هذا المعنى فقط، يمكن القول إن الشخصية التي صورها كاربانتييه في روايته، وليتين في فيلمه، إنما هي شخصية تنتمي الى الماضي... السحيق! [email protected]