كنا صغاراً، نلعب في التراب، كنا نُعفر أنفسنا به، نضعه على رؤوس بعضنا، نبني أكواماً منه ونشيد جبالاً، كان الكبار يشعلون ناراً كي تخلف الدخان الذي يخنق البعوض، لنرتاح من إبره السامة، وكانوا يحذروننا دوماً من اللعب بالنار حتى لا نبول على أنفسنا ونحن نيام. في هذا التوقيت كانت حشرة صغيرة تجري. صغيرة في حجم حبة القمح، داكنة، كنا نطلق عليها البيبة. كان يظهر منها الكثير يمشي في التراب، وكنا نطلق عليه البيبات. كان الولد عنترة، يقول: «إن البيبة يجب أن نقتلها. البيبة تكبر، تصبح ذئباً يفتك بمن يقابله. الذئب الذي هو في الأصل بيبة صغيرة، كان سيأكل أبي عند الساقية القديمة». كنا ننصت إلى عنترة باهتمام. أثَّر حديثُه فينا. قررنا أن نشن حملة على البيبة. رحنا نجمع كل بيبة نجدها في تراب الشوارع. كنا نقتلها خشية أن تصير ذئباً يأكل آباءنا، كما قال الولد عنترة. كنا نفعصها تحت أحذيتنا البلاستيكية، كانت تتحلل في التراب، ونحن نهلل ونرقص. وحينما أخذني أبي إلى مستشفى البندر لأعالج من البلهارسيا التي استفحلت في دمي ومصَّت وجهي، لم تصادفني أية بيبات في أروقة المستشفى. جلسنا على الأرض، جاء ممرض جسمه كالبرميل وأخبر الجميع أن التحليلات بعد ساعتين حيث مجيء الطبيب المعالج، راح أبي يدخن متحدثاً إلى رجل لا يملك إلا رجلاً واحدة، أما أنا فقد أخرجت من جيبي ثلاثاً من البلي لألعب على تلك الأرضية الملساء، لكن بعد أن حليَّ اللعب، هربت إحدى الحبات متدحرجة فوق البلاط، جريت خلفها لكن الملعونة توقفت عند قدمين مفلطحتين كانتا للممرض البرميل. صرخ البرميل في وجهي الممصوص: «هل تظن نفسك في دار أبيك؟». ازداد وجهي المصفر اصفراراً، تركت البلي وجريت نحو أبي الذي لم يكترث، فقد كان منهمكاً في الحديث مع الرجل فاقد الرِجل. لم يأتِ الطبيب. خرجنا من المستشفى. مشينا في شوارع المدينة الإسفلتية، ولم تصادفنا أي بيبات، فتساءلت في نفسي: أين ذهبت البيبات؟ رمينا عينتيّ التحليل في أقرب مقلب للقمامة. رحت أزدرد حبَّات الترمس الذي اشتراه لي أبي، كنت أزدرد الترمس وأنا أركل بحذائي الأيسر الذي يبص منه إصبعي الأكبر كل الحصيات التي كانت تقابلني، كنت أشعر بأنني كلما ابتلعت حبة من حبات الترمس أن البلهارسيا تلتهمها على الفور، لا تترك حبة واحدة تستقر في معدتي، إنها خبيثة تأكل ولا تظهر، تأكدت ساعتها أنها أخطر من البيبة التي تصير ذئباً كما قال الولد عنترة. عندما عدت إلى القرية لم أشارك الأولاد قتل البيبة، رحت أجمعها من التراب وأضعها خلسة في كيس عندي خوفاً عليها من القتل، سآخذها معي إلى البندر في الزيارة المقبلة، سأفتح الكيس هناك، سأطلقها في شوارعه التي تخلو تماماً من أي بيبات.