قليلة هي الأوقات التي تتحدث بها أمي ونكون منصتين. دائما ما تكون مستمعة، هادئة، مطمئنة. إنها من النوع الذي يستمع لك حتى تنهي حكايتك وفكرتك. نادرا ما تظهر معارضة لك. دائما ما تتوج مجمل حديثها بأن يكون الرضا والاتفاق عنوانه. لن تستطيع أن تغضبها إلا بعد سنوات طويلة من الجهد. تبقى ساكنة متأملة صابرة. حتى ربما لا تشعر بوجودها لوهلة. لأنها تنظر إليك أولا وترعاك أولا. وتبارك ثمرتك أولا. حتى كأنه لا شيء من شأنها مهم. إنما هو رعايتها بشتى هذه الأحوال لك. وهذا ربما قد أوحى لي ولإخوتي بإثم عظيم. وذنب جسيم. في عدم إشراكها في همومنا. وهي قريبة. ولا في مشاكلنا وهي تسكننا. قلت لها: أمي.. تلك الفجوة بين زمنكم وزمننا واضحة. فكأن بيننا جيل مفقود. ولكنها حكمة الله قد حلت. أقسم لك بالله أني تمنيت لو عشت في زمنكم.. زمن الفانوس.. والرعي.. وحسن الجوار.. والغدير.. والحب.. والأسرة.. والبيوت الحجرية الطينية المتلاصقة.. والسكون.. وكل ذاك. قالت: يا ولدي ذلك زمن قد بعد في سحيق الذاكرة، قد راح وانصرم وهو حي باستذكاره.. يا ولدي كنا نخرج بالغنم ونحن فتيات صغار في الظهار نرعى بها من باكورة الصباح.. بعد أن نصنع الإفطار لأبينا.. من البر والسمن والعسل.. ونبقى في تلك الأراضي نهش بالغنم ناحية الزرع لتعلف فيدر حليبها ويسمن جسمها.. ثم إذا شدت الشمس نارها.. وقربت الظهيرة عدنا إلى البيت.. وربما مررنا بالغدير فملأنا قربنا ماء نشرب منه وتشرب منه الماشية.. وجلسنا ناحية الظل من بيتنا نخدم أبانا ونلعب ألعابنا.. ونكيد لبعضنا مكايد وننسج لبعضنا دواهي من المكر.. أذكر من ذلك.. كانت صديقة لنا تضع في مكان سجودنا رؤوس شوك السلام قائما مخبأ في التراب حتى إذا سجدنا أصابنا، فكدنا لها بأنكل من ذلك.. كان يا ولدي زمنا هادئا.. لطيفا.. صادقا جدا. أمي إذا تحدثت ننصت لها ونبتسم، فهي تحكي من الحكايا ما كون خميرة حياتها. وإذا أردت أن أصفها صفة بارزة واحدة فإنه هذا الهدوء والرأفة والتأني. حملته من أبيها الذي كان بهذه الصفة. قالت تحكي عنه: أبي.. هادئ الطبع.. لا يتكلم كثيرا.. يختلف معه أخواه فلا يجيب إلا خيرا. يبقى متأملا قد صحبته القطط حتى كثرت وانتثرت في البيت، فكان يطعمها من طعامه.. وتنام معه على فراشه.. وهي ما أصابه بالمرض. ولكنه مع هدوئه ذاك قد يغضب فإذا غضب دارت عيناه في محجرهما الذي اتسع.. دورة لا تخفيها أطر النظارة السوداء.. إذا غضب يفقد سيطرته.. فيصمت الأخوان اللذان يكبرنانه والجميع.. وأنا كذلك يا ولدي.. لا أغضب كما ترى.. وقلما في حياتي كلها أن أغضب.. ولكني إذا غضبت فتراني أخرى.. أفقد جأشي وحلمي.. لأنني لا أغضب مما قد حلمت عنه الدهر كله. فغضبي مباح يا ولدي. قلت لها: يا أمي.. هل تتذاكرون تلكم القصص والذكريات بينكن الآن وقد أصبحتن كبارا.. قالت: نعم يا ولدي.. نتذاكر.. ولكن الحياة أشغلتنا.. قضيت حياتي كلها في ولادة وتنشئة وتربية.. قضيت عمري من أجلكم وأجل أبيكم.. ما بين رعايتكم وانظر كم أنتم الآن.. وبين هم أكلكم.. ونجاحكم في مدارسكم.. ثم حين تكبرون تقبل مشاكلكم.. كلكم أتعبتموني صغارا وفي مقتبل شبابكم.. كان ليلي سهدا أنتظر عودتكم من سهركم.. ونهاري هما بشأن فلاحكم.. أدعو لكم سرا وجهرا.. ليلا ويوما.. لا أنفك أن أرى فيكم الصلاح والنجاح.. نعم.. يا ولدي.. نتذكرها تلك الذكريات القديمة.. قبل أيام لقيت صديقتي تلك التي حدثتك عنها في أحد الأفراح.. فأخذت بيدي، وهي تحبني.. وقعدت تحادثني وتسألني ثم رحنا نضحك على مشاغباتنا ولهونا الذي كان. قلت لها: يا أمي.. وكيف كان الفرح الذي حضرته؟ قالت وعلى وجهها ابتسامة تعجب: يا ولدي.. عجب.. عجب.. باتوا يخصصون لنا غرفا حتى نرتاح ونهرب لها من الضجيج والإزعاج.. قلت: لا.. يا أمي.. أقصد البنات، هل رأيت بنات حلوات؟ كبرت ابتسامتها لتضحك: يا ولدي.. إذا عزمت وأنت مستعد فالبنات كثر.. ولكني قد عجبت من أمرهن. قلت: ولماذا هذا العجب من الحلوات؟. قالت: يا ولدي.. الواحدة لا تكاد تعرفها إذا رأيتها.. تذهب إلى المشغل فتقعد هناك ساعتين.. ثم تدخل قاعة الفرح وهي في حلة غريبة.. كأنها ساحرة أو بها مرض.. قد محيت ملامح وجهها وحل مكانه بياض البودرة الصناعي الناصع.. ثم الألوان الفاقعة قد انتشرت في أطراف الوجه وزواياه كأنه معرض ألوان.. لتتناسب ألوانه مع لون الثوب الذي تلبسه ولون الحذاء.. وكل واحدة تلبس فستانا فلا يمكن أن تلبسه مرة أخرى في فرح آخر.. يا ولدي قد تكلفن كثيرا.. كثيرا.. والثياب بها من التفسخ ما نستحيي منه نحن الأمهات الكبار.. فنهرب إلى غرفنا تلك.. أما ضجيج الرقص والطرب.. فحدث ولا حرج.. قلت لها أستعيد أنفاسها: وما رأيك أنت؟ قالت وهي تتنهد في أمل: يا ولدي.. كل هذه المظاهر كاذبة وخادعة.. كلنا تزوجنا.. وهؤلاء البنات سوف يتزوجن وسيصبح الزواج فيما مضى ذكرى.. فلماذا لا نجعله ذكرى فرح لا هم وقلق لإرضاء الآخرين.. لماذا هذا التفاخر.. والعادات التي نخلقها فنبذر ونبذخ ونضيع أموالنا وفضائلنا حتى نعجب الناس.. ولا يعجب الناس غير التراب في وجوههم.. يا ولدي.. كانت زينتنا خفيفة وبسيطة لا تغير ملامحنا ولا تخيف من يرانا.. يسهل وضعها وتسهل إزالتها.. كانت وجوهنا صادقة كأرواحنا.. يا ولدي إنك ترى إحداهن اليوم بزينتها فتعجب بها فإذا أزالتها أنكرتها.. وحلفت أنها ليست تلك التي رأيتها أول مرة.. من يقدر الآن يا ولدي أن يفعل كل الأشياء ببساطة وهدوء.. أجبتها في تأييد: لا أحد.. لا أحد.. قل ما تجدين.. قل. انتهى حديثي مع أمي تلك الليلة. وبقلبي الليلة شوق لها ولحديثها الهانئ وتعاليم حياتها الصادقة. بشوق لصمتها وإنصاتها واهتمامها. كم يحب كل منا أمه.. ولكن كم يظفر أحدنا بأم كأمي؟! مدونة عبدالله الزهري http://rosebreeze.blogspot.com/