في أعقاب أزمة المال العالمية، بدأ صناع السياسات حول العالم يعملون على بناء نظام مالي يجمع بين الابتكار والثبات لدعم النمو الاقتصادي القابل للاستمرار. وظهر توافق عام في الآراء حول الحاجة إلى إدخال تحسينات كبيرة على التنظيم والرقابة المطبقين على المصارف ومؤسسات المال، بهدف تتبُّع تطورات المخاطرة وإخضاعها إلى تنظيم أكثر فعالية، وحول ضرورة تعزيز الآليات الراهنة لحل الأزمات. وكان تأثير الأزمة على مصارف الشرق الأوسط أقل حدة مما على المصارف النظيرة في الاقتصادات المتقدمة، لتركيزها الأكبر على الإقراض التقليدي وتعبئة المدخرات، واندماجها في درجة أقل عموماً بأسواق المال العالمية، ما جعل إصابتها بعدوى الأزمة أقل حدة. وساعد على احتواء أثر الأزمة، اتخاذ إجراءات عاجلة وقوية من خلال السياسات، إلى جانب إصلاحات ومبادرات مالية موجودة. وأدت سياسات المالية العامة الحذرة وتراكم الاحتياطات في بلدان كثيرة خلال فترة الازدهار السابقة للأزمة، إلى الحد من مواطن الهشاشة على مستوى الاقتصاد الكلي وإتاحة الحيز المالي اللازم لتقديم الدعم الحكومي. ومع ذلك، فكما حدث في مناطق أخرى من العالم، كشفت الأزمة عن مواطن هشاشة في بلدان المنطقة، ما يبرز الحاجة إلى إجراء مزيد من الإصلاحات. وتتمثل بعض مواطن الهشاشة في عيوب قديمة تشمل اكتفاء المصارف باسم المقترض في السوق لمنحه القرض المطلوب، من دون توخي العناية الواجبة في إجراءات التحقق وممارسات إدارة الأخطار، ومن دون توافر الصلاحيات الرقابية اللازمة لاتخاذ إجراءات علاجية عاجلة، ومع وجود أوجه قصور في الرقابة الموحدة. وتتطلب معالجة هذه المشكلات مستوى أفضل من التنظيم ورقابة أكثر صرامة. ولا داعي للتأكيد على احتياج النظام المالي السليم إلى إشراف نشط واستعداد للتحرك العاجل لتثبيط الأنشطة التي تنطوي على إفراط في المخاطرة. لكن إضافة إلى ذلك، كانت الأزمة الأخيرة دافعاً إلى إطلاق طائفة مبادرات تنظيمية عالمية، بخاصةٍ أربع منها وثيقة الصلة بالمنطقة، وهي خفض الطابع الدوري، وإرساء معايير أكثر صرامة للسيولة، وإيجاد سبل لمعالجة مشكلات مؤسسات مالية تؤثر في النظام المالي، وتحسين الأطر المعتمدة لتسوية أوضاع المصارف المتعثرة، بما فيها العاملة عبر الحدود. ويعتبر الحد من الطابع الدوري في أسواق المال - أي دورات الانتعاش والكساد - أموراً وثيقة الصلة بقطاعات المال المعرضة لتقلبات أسعار النفط وتدفقات رأس المال في منطقة الشرق الأوسط. ففي هذه البلدان، نشأت مواطن الهشاشة نتيجةَ الإفراط في تمويل الطلب على العقارات وحصص الملكية أثناء طفرة أسعار النفط من 2003 إلى 2008. وأدى الهبوط الحاد اللاحق في أسعار الأصول إلى التسبب بخسائر فادحة بعدد كبير من المصارف وربما أيضاً إلى الحذر الزائد في منح القروض، حتى إلى المشروعات التي يمكن أن تكون أوضاعها سليمة. وبينما ينبغي أن يكون خط الدفاع الأول السياسات الاقتصادية الكلية الصائبة - مثل استخدام سياسات المالية العامة المعاكسة للاتجاهات الدورية - فإن السياسات الاحترازية الجاري درسها في سياق الحوار العالمي بهذا الخصوص، يمكن أن تكون عاملاً مساعداً للبلدان المصدرة للسلع الأولية وغيرها من البلدان المعرّضة لتحول اتجاه التدفقات الرأسمالية. ويمكن استخدام هذه الأدوات - مثل اشتراطات رأس المال والسيولة ورصد مخصصات الاحتياط - لتشجيع المؤسسات المالية على تكوين احتياطات وقائية في أوقات اليسر للاستعانة بها في أوقات الشدة. ومع ازدياد عمق الوساطة المالية عبر بلدان المنطقة، يتعين التأكد من أن مؤسسات المال أنشأت نظماً ملائمة لإدارة السيولة وقدراً كافياً من السيولة الوقائية. ففي أسواق صاعدة في الشرق الأوسط وغيره من المناطق، لم تواكب، فتراتِ التوسع الائتماني السريع، زيادةٌ في مستوى التمويل الثابت بالتجزئة. فاستعانت المصارف بمصادر تمويل أجنبية، ولحق ضرر بالغ بأجهزة مصرفية عندما تعذر تمديد القروض. ولا يعني هذا أنه ينبغي تثبيط التدفقات المالية الدولية، بل يشير إلى ضرورة توزيع الأخطار والتحوط منها. ومن القضايا ذات الاهتمام بالنسبة إلى الشرق الأوسط، أن المناقشات بدأت على المستوى الدولي حول معايير السيولة التي اقترحتها لجنة «بازل». وتستضيف بلدان في المنطقة مصارف تبدو أكبر من قدرة السلطات على تقديم الدعم اللازم لها. وسلطت الأزمة أضواء على الأخطار التي تنشأ عن جهات الوساطة المؤثرة على النظام المالي في الاقتصادات المتقدمة، ويدور نقاش حالياً بين الهيئات التنظيمية على مستوى العالم، حول السبل الممكنة لتخفيف تلك الأخطار. ومن الخيارات فرض رسم إضافي على رأس المال، أو فصل الأنشطة الأكثر خطورة عن الأنشطة الأخرى، أو وضع «خطط للتصفية» يضمن المصرف بموجبها للهيئات التنظيمية المشرفة عليه، إمكانية فصل أي جزء متعثر عن الهيكل الأساسي وتسوية أوضاعه في شكل منظم. وتدير مصارف في المنطقة عمليات في بلدان مختلفة. وعلى رغم أن هذه العمليات قد لا تكون ضخمة في بلد ما، ينبغي على السلطات الرقابية أن تعزز التعاون مع مثيلاتها عبر الحدود لضمان الرؤية الموحدة للأخطار. ومن القضايا التي تشكل محوراً للتركيز الآني وضع إطار قانوني شامل يحكم التدخل الحكومي في مؤسسات المال التي تقدم خيارات لإعادة الهيكلة العاجلة، سواء على المستوى المحلي أو عبر الحدود. وقد ترى بلدانٌ أقل تأثراً بالأزمة، أن لا ضرورة لتنفيذ إصلاحات جديدة. لكن مثل هذه الإصلاحات يهدف إلى التعامل مع مواطن الهشاشة التي قد تظهر مستقبلاً. ويمكن أن يؤدي اختلاف القواعد التنظيمية عبر الحدود إلى هجرة الأنشطة عالية الأخطار إلى تلك البلدان مع الخضوع لأدنى الاشتراطات التنظيمية. وبالتأكيد، يتعين وجود درجة من التقدير الاستنسابي على المستوى الوطني عند صياغة الممارسات الفُضْلى الجديدة، وتعديل التوصيات المتعلقة بالسياسات لتتلاءم مع الظروف المحلية. ولتحقيق هذا الهدف، وحيث أن الجهود الرامية إلى إعادة تشكيل البنيان المالي العالمي لا تزال في طور المناقشة، يتعين أن تكون آراء صناع السياسات في الشرق الأوسط جزءاً من النقاش الدولي الدائر في هذا الصدد. وأفضل فرصة للحد من أخطار السياسات غير المنسقة وتدفقات الاستثمار المشوهة وأعمال المراجحة التنظيمية، اعتماد منهج عالمي متماسك للتعامل مع هذه القضايا. * مدير منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد. ** مدير إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد.