كان روبرت بيرد الذي توفيّ في نهاية شهر حزيران (يونيو) الماضي السيناتور الذي شغل عضوية مجلس الشيوخ لأطول فترة في تاريخ الولاياتالمتحدة منذ انتخابه للمرة الأولى عام 1959 أي منذ حوالى خمسين عاماً، وأعيد انتخابه لعضوية المجلس منذ ذلك الحين. وتعدّ وفاته تذكيراً بعدم ديموقراطية أحد أهمّ وجوه الحكومة الأميركية وبالخلل في عملها، إذ أنّ المجلس الأعلى الأميركي (مجلس الشيوخ) هو أقوى من المجلس الأدنى منه (مجلس النواب). وترجع أسباب ذلك إلى دستور عام 1787 بحدّ ذاته وإلى بنوده التي تنص على انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ (اثنان عن كل ولاية) لمدة ست سنوات فيما يتمّ انتخاب أعضاء مجلس النواب الأميركي مرة كلّ سنتين. وتختلف تفسيرات علماء التاريخ لهذا الواقع. فبشكل عام يفترض البعض أنّ الأشخاص الذين وضعوا نص الدستور كانوا يخشون إعطاء المجلس الأدنى الذي ينتخبه الشعب سلطة كبيرة مع العلم أن واضعي القوانين من الطبقة الراقية تخوّفوا من أن يسمح مبدأ صوت واحد لكل ناخب للديماغوجيين بالسيطرة على الناخبين الجاهلين الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية متدنية. ويبدو أنّ البعض الآخر اعتبر أنّ الوضع قد يستقيم مع مرور الوقت حين تتمكن السلطة السياسية التي وصلت إلى المجلس والتي تمثّل الحاجات السياسية الفورية للشعب من البروز. إلا أنّ ذلك لم يحصل أبداً. بالتالي، يستطيع مئة سيناتور تأخير إقرار مشروع قانون أحاله إليهم مجلس النواب الأميركي أو مراجعته أو حتى إبطاله. والدليل على ذلك هو سعي المجلس الذي يحظى فيه الديموقراطيون بالأكثرية إلى تمرير قانون الرعاية الصحية الذي يدخل في صلب أجندة الرئيس أوباما الانتخابية التي تحظى بتأييد الشعب. وقد أخرت مجموعة صغيرة من الشيوخ إقرار هذا المشروع لفترة طويلة من الزمن وذلك لأسباب مبدئية أو لأن بعضهم كان أحد المستهدفين الأساسيين من خطة الرعاية الصحية ومن مجموعات الضغط التابعة لها والتي تملك أجندتها الخاصة ومبالغ كبيرة من المال تنفقها أو تحتفظ بها حين يتعلق الموضوع بالحملات السياسية المكلفة التي ينظمها أعضاء مجلس الشيوخ في حال رغبوا في البقاء في منصبهم. لكنّ الموضوع يذهب أبعد من ذلك والدليل هو ما حصل مع السيناتور بيرد. فبعد الحرب الأهلية في عام 1860 اهتمّ الجمهوريون الذين عملوا في عهد خلفاء الرئيس ابراهام لينكولن بإعادة إعمار الجنوب الذي كان يرزح تحت الاحتلال العسكري الافتراضي. وقد أدت الإساءة إلى العنفوان والمصالح الجنوبية، لا سيما عندما حاول البعض إعطاء الحقوق السياسية إلى العبيد السود المحررين، إلى رد فعل عنيف إلى حدّ أنه استحال على الجمهوريين على مدى حوالى ألف عام الفوز بانتخابات مجلس الشيوخ في الجنوب. نتيجة لذلك، بوسع أي عضو ديموقراطي مدعوم من الناخبين البيض الاحتفاظ بمقعده في مجلس الشيوخ مدى الحياة إن هو أراد ذلك. ينطبق هذا الأمر على السيناتور الراحل بيرد. فكلما طالت مدة خدمته في مجلس الشيوخ كلما أصبح منصبه أكثر أهمية، الأمر الذي سمح له بتولي رئاسة أهم اللجان بما فيها رئاسة لجنة المخصصات في مجلس الشيوخ وهي الهيئة الأساسية التي تتحكم بخزانة الدولة. ولا عجب في أنه كان فخوراً بقدرته على إنفاق بلايين الدولارات من أموال الحكومة لتمويل مشاريع في ولايته في ويست فيرجينيا. ويبدو أنّ السلطات الاستثنائية التي يحظى بها الرجال والقلة من النساء الأعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي هي أحد أسباب الخلل الحاصل في عمل النظام السياسي الأميركي الحالي. فبوسع عضو واحد أو عضوين تعليق مشروع قانون يعتبره الرئيس الأميركي حيوياً للمصلحة الوطنية ويحظى في معظم الأحيان بتأييد أكثرية الناخبين، مع العلم أنّ هذا الواقع لا ينطبق على أي دولة ديموقراطية أوروبية. ولا شك في أن ثمة إيجابية في بقاء الأعضاء المنتخبين مدة طويلة في منصبهم لأن ذلك يسمح لهم بتعلم كيفية إدارة مؤسسة معقّدة مثل مجلس الشيوخ، فضلاً عن قدرتهم على تشكيل الائتلافات مع الأحزاب حول مسائل مهمة غير حزبية. ويبدو أن أميركا تتكبد ثمناً باهظاً جرّاء نظام يواجه فيه الرؤساء صعوبة كبرى في إعداد الأجندة التشريعية التي طالبهم الناخبون بتطبيقها. ويؤدي إعطاء هذا القدر الكبير من السلطة لعدد قليل من الأعضاء إلى نتائج أخرى على سير العملية الديموقراطية. فهو يسهل من جهة التلاعب بقرارات مجلس الشيوخ خلال الأزمات الوطنية، فقد صوت أعضاؤه بالإجماع على قرار شنّ حرب على شمال فيتنام عام 1964 أو أفغانستان والعراق كما حصل أخيراً. ومن جهة أخرى، يمكن أن يتلقى الأعضاء الأساسيون في اللجان الأسرار التي لا ترغب الإدارة في إعلانها أمام كامل أعضاء المجلس. ما هي العبر التي يمكن للأشخاص الموجودين في الشرق الأوسط والراغبين في معرفة الطريقة التي تعتمدها واشنطن في العمل استخلاصها من كل ذلك؟ أولاً، تملك الولاياتالمتحدة نظام حكومة لا يشبه أي نظام آخر في العالم، حيث يحظى عدد كبير من الأعضاء شبه الدائمين في مجلس الشيوخ بسلطة أكبر من أعضاء مجلس النواب الذي يخضع لإرادة الشعب. ثانياً، يعطي ذلك سلطة كبيرة ليس لأعضاء مجلس الشيوخ فحسب بل للأشخاص الذين يملكون مصالح خاصة ويعرفون كيفية الترويج لها في شكل فاعل ومنهم أولئك الذين يسعون إلى الدفاع عن إسرائيل. ثالثاً، ينبغي على كل دولة شرق أوسطية ترغب في أن تحظى بتأثير في واشنطن أن تبحث عن وسائل خاصة لعرض حالتها أمام أعضاء مجلس الشيوخ الذين يسيطرون على اللجان المرتبطة بالسياسة الخارجية وعلى القوات المسلحة وعلى مخصصات الحكومة. إذا كان هناك من عزاء لمن هم خارج الولاياتالمتحدة ويريدون تعلّم الطريقة الفضلى لعرض مصالحهم الوطنية في واشنطن، فلعل عزاءهم هو في أن عدداً قليلاً من الأميركيين أنفسهم خارج العاصمة واشنطن يفهم السلطات الدستورية الاستثنائية التي أنيطت بمجلس الشيوخ. قد تفترضون أنّ بعض المعلقين لفتوا النظر إلى أنّ السلطات الهائلة التي راكمها سيناتور جنوبي مثل روبرت بيرد على مدى نصف قرن هو أمر منافٍ للديموقراطية، لكنّ ذلك لم يحصل للأسف. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد