من حق عالم وباحث مثل نصر حامد أبو زيد أن تظل الأسئلة التي طرحها حية بعد وفاته. وإذا كانت الإشادة بدفاعه عن العقلانية في مواجهة تيارات الإنغلاق والتعتيم الفكري، إشادة مستحقة، إلا أنه تظل قاصرة عن الارتقاء إلى حدود متابعة ما باشر الراحل من مشروع. أمضى أبو زيد عمرا في البحث والتحليل في خلفيات الخطاب الإسلامي، القديم والمعاصر، وتناول أعمالا تمتد من مؤلفات عبد القاهر الجرجاني وابن عربي إلى علي عبد الرازق. ولعل التناول السريع لاعمال العالم لا تفيها حقها، لكن في المقابل، غالبا ما تؤدي كلمات التأبين إلى إماتة الإشكاليات الحية التي طرحها الراحل على مائدة النقاش. «حرب التكفير» (كما يصف أبو زيد محنته) التي تعرض له منذ عام 1993، والتي تأسست الخلافات الفكرية واتهامات الردة التي وجهت إلى الرجل، على عداء وبغض شخصيين من قبل عدد من زملائه (ولسخرية القدر، تجرع بعضهم الكأس المسموم ذاتها التي أُرغم أبو زيد على تجرعها)، هي ما جذب أضواء الإعلام اليه أكثر من أعماله التي كانت تمضي في طريق البحث العلمي والأكاديمي الهادئ والعميق. بيد أن الحرب تلك أفادت أبو زيد بكشفها حدة الخلاف حول الإشكاليات والهواجس التي عمل على عرضها وتفكيكها ونقدها طوال عقود. فمسائل مثل سلطة النص المقدس والجهات التي تمتلك الحق في تفسيره وتأويله وإعادة تقديمه بصيغ جديدة تلائم التوزانات الاجتماعية والسياسية التي تزدهر الجهات تلك في ظلها، لم تفارق كاتبنا. من هنا اهتمامه الشديد بمحي الدين بن عربي الذي خصص له اثنين من كتبه («فلسفة التأويل» و»هكذا تكلم ابن عربي»). وفيما يمثل الأول دراسة شديدة الأهمية حول الأدوات المعرفية واللغوية التي أتاحت «للإمام الأكبر والكبريت الأحمر» ابن عربي إنشاء مفاهيمه الفلسفية الخاصة التي نظر إلى الوجود والحياة والنص الديني من خلالها، يبدو الثاني سيرة آخاذة في فصول حياة صاحب «الفتوحات المكية» ورحلاته وتجاربه الروحية والفكرية. عناوين كتب أبو زيد الأخرى ومتونها، تعلن من دون لبس التزام الباحث بموقف نقدي من سلطات تمد شباكها لتتحكم بأسلوب نظر المسلم العادي إلى دينه وصلاته وعبادته وتطويع هذه جميعا في سياق فكرتها الخاص عن مضمون الدين وخلاصاته. قد يلتقي عمل نصر حامد أبو زيد في نقاط عدة مع أعمال آخرين من الباحثين العرب المعاصرين، مثل فؤاد زكريا (الذي رحل أيضا قبل شهور) ومحمد أركون وجورج طرابيشي، ويفترق عنها في نقاط. فإعلاء قيمة العقل وتقديمه على الخرافة والصور الجاهزة والتصورات المندرجة في خدمة سلطات اجتماعية وسياسية، عناصر مشتركة بين هؤلاء وإن سار كل منهم في طريق ربما قادته إلى استنتاجاته الخاصة في شأن جدول الأولويات الذي يتعين على المجتمعات الإسلامية والعربية وضعه للخروج من مأزقها وفواتها التاريخيين. العقلانية والأنسنة وكسر احتكار النص والتجديد من الداخل الإسلامي وليس فرضه من خارج معاد، هي، عموما، عناصر جدول الأعمال العربي والإسلامي الذي من المفترض، بنظر قسم من الكتاب والباحثين والمفكرين العرب والمسلمين، وضعه قيد التطبيق. وإذا كانت المشاريع النهضوية الشاملة التي طمح اليها العرب والمسلمون في أزمنة ولّت، قد أخفقت لأسباب شرحها يطول، فإن من الأهمية بمكان أن يظل نهضويون مثل نصر حامد أبو زيد يعيدون التذكير بالأسئلة الأساس ومنها: من يُفسر النص وكيف؟ ولماذا يخدم هذا التفسير جهة ويقمع أخرى؟