لم يؤدِّ اكتشاف النفط ولا تصديره بالضرورة الى الاستقدام. وحتى شركات إنتاج وتصدير النفط في دول الخليج العربي، حينما كانت (وما زالت بدرجات اقل) تستورد «العمالة الفنية» فقط في السعودية، وغير الفنية في دول خليجية أخرى، فإنها لم تهمل المواطنين. بل إن «أرامكو»، قبل وبعد أن صارت سعودية، ربما كانت، ولا تزال، أفضل جامعة عربية على مستوى معين من التعميم. فمنذ بداية البحث عن النفط وحتى اكتشافه وبعد نهاية الحرب الكونية الثانية في عام 1945 حينما بدأ تصديره بكميات كبيرة و»أرامكو» تسعى جاهدة لاستقطاب السعوديين من كل جزء من أجزاء المملكة الواسعة. وأقامت لهم المدارس من الابتدائية وحتى الثانوية الى أن انتهت الحاجة لقيامها بهذا الدور. وفتحت معاهد التدريب وابتعثت النابهين الى أفضل المعاهد والجامعات. ومعظم كبار رجال الأعمال في المنطقة الشرقية من السعودية إما عملوا في «أرامكو» أو أهّلتهم «أرامكو» ذاتها ليكونوا مقاولين يبيعون عليها السلع والخدمات. غير أن «أرامكو» بحد ذاتها ليست موضوعنا. الهدف من كتابة هذا الموضوع هو بحث العلاقة بين تصدير النفط وما سببه ارتفاع أسعاره في أوائل السبعينات من القرن الماضي من «طفرة» اقتصادية هائلة في أواخرها. فارتفاع عائدات البترول سمح ببناء الطرق والموانئ والمطارات والقواعد العسكرية الضخمة الحديثة (وقد أثبتت الأحداث الحاجة الى إيجادها) والمدارس والمستشفيات وابتعاث آلاف الطلاب الى أوروبا وأميركا، وغيرها الكثير. كما سمح أيضاً بإنشاء صناديق التنمية كصندوق التنمية العقارية وصندوق التنمية الصناعية وغيرهما. ولكن الإنفاق الحكومي الكبير أعطى الفرصة لآلاف المواطنين إما ليكونوا أرباب عمل من دون أية تجربة سابقة، أو بالعمل لدى غيرهم في القطاع الأهلي ابتداءً ثم التحول الى أرباب عمل. ولكن من سيعمل عند أرباب العمل ما دام الكثيرون صاروا أرباب عمل؟ بل حتى الوظائف الحكومية التي تتطلب المستوى الجامعي تكاثر الشاغر منها. وهنا أتى دور الاستقدام. في البدء استقدام المؤهلين المتخصصين، ثم شمل العمالة الفقيرة الجاهلة، التي تخصص في تجارة بيع خدماتها سماسرة من أبناء جلدتها. وما هي المشكلة؟ المشكلة أن الطفرة انتهت بعد تدني أسعار النفط. ثم احتل صدام الكويت في طريقه الى غيرها من جاراتها، وحرب تحرير الكويت أكلت اليابس والأخضر وكل ما أمكن توفيره من ذي قبل. ومنذ أيام «الطفرة» زاد عدد الخريجين ومن على كافة المستويات بنسب كبيرة. وبالتدريج صار من شبه المتعذر عليهم قبول الأعمال التي يؤديها المستقدمون بنفس أجورهم المتدنية وبعدد ساعات عملهم التي قد تصل الى أكثر من ضعف عدد ساعات العمل في المصالح الحكومية. الاستقدام شوّه سوق العمل تشويهاً كاملاً في دول الخليج العربية باستثناء سلطنة عمان وبحد اقل مملكة البحرين. والسؤال يبقى: هل كان ممكناً لدول الخليج العربية أن تتحاشى كل شرور ما صار يعرف ب»لعنة المعادن» أو المصادر؟ من ناحية تحاشي تأثير تصدير البترول في قيمة عملات دول الخليج الوطنية، فإنها تحاشتها لسببين، أولهما: أن البترول يباع ويشترى بالدولار، وعملات دول الخليج العربية مرتبطة إما جزئياً، كما في الكويت في السنوات الأخيرة، أو كلياًً بالدولار، وثانيهما: أن عائدات دول الخليج من مبيعات النفط ومشتقاته لا يتم تحويلها أوتوماتيكياً إلى عملات وطنية. وإنما تخضع مستويات السيولة من عملاتها الوطنية لاعتبارات نقدية ومالية خاصة في كل منها. ومن الواضح أن تصدير النفط خلق تغيرات هيكلية كالقضاء على الحرف ذات الطابع المحلي وبقيّة مصادر أرزاق الأجداد بالإضافة إلى الاستقدام الذي شوه تماماً أسواق العمل. وقد سبق أن اقترح اقتصاديون مهنيون أجانب أن تفعل دول الخليج العربية كما فعلت النروج، أكبر مصدر أوروبي للنفط، بعزل عائدات قطاع النفط تماماًً عن بقية الاقتصاد الوطني. وهذا يحتاج الى تفسير. فقد سبق لهولندا، وهي دولة أوروبية متقدمة، مماثلة من زاوية التقدم للنروج، أن بدأت بتصدير الغاز في الستينات من القرن الماضي. وعائدات تصدير الغاز زادت ممتلكات هولندا من العملات الأجنبية. وهذا أدى إلى ارتفاع قيمة «الغيلدر» العملة الهولندية في ذلك الوقت. فالذين يشترون الغاز الهولندي يدفعون بالعملة الهولندية. وهذا ما رفع الطلب عليها فزادت قيمة العملة الهولندية نسبة الى بقية العملات الأجنبية. فارتفعت الواردات وتدنت الصادرات التي سبق أن كان للهولنديين ميزة نسبية بإنتاجها وتصديرها، كالالكترونيات التي ارتبطت باسم شركة «فيليبس» وبعض الآليات والبتروكيماويات ومنتجات زراعية هولندية معروفة. وبعد أن تعلمت النروج من تجربة هولندا، أنشأت في عام 1996 محفظة استثمارية أسمتها «صندوق النفط». وتوضع جميع عائدات النفط النروجي في هذه المحفظة الاستثمارية. وحتى لا يتأثر الاقتصاد النروجي بهذه المحفظة الاستثمارية، فإن الشعب النروجي اختار بنكه المركزي لإدارة هذه المحفظة بالاستثمار في أسهم شركات «أجنبية» لا نروجية حتى لا تتأثر القطاعات الاقتصادية النروجية الأخرى بعائدات النفط. ولكن نصيحة الاقتصاديين الأجانب بأن تفعل دول الخليج العربية ما فعلته ولا زالت تفعله دولة أوروبية متقدمة كالنروج، نصيحة غير واقعية. فالنروج قبل وبعد تصدير النفط دولة متقدمة مستوى دخل الفرد فيها من أعلى المستويات العالمية. بلد صناعي وزراعي منتج ينافس بقية الدول المتقدمة بجدارة وكفاءة. وتسمح ظروفه الاقتصادية والاجتماعية واستقراره السياسي وغياب جيران لا مصلحة لهم بزعزعة استقراره، بوضع صندوق خاص لعائدات النفط، وعزل ممتلكات الصندوق عن بقية الاقتصاد الوطني بالاستثمار في أسهم شركات أجنبية ونسبة صغيرة من العقارات الأجنبية أيضاً. أما نحن مواطني دول الخليج العربية فنعرف أننا دول نامية بيئتها صحراوية وأمطارها قليلة وليس فيها لا أنهار ولا بحيرات ولم يتوفر فيها «فائض اقتصادي»، قبل تصدير النفط، يسمح ببناء محاور للتنمية أو حتى يوفر الحد الأدنى من ضروريات الحياة كالكهرباء ومياه الشرب. أي ليس لدينا الإمكانية لعزل قطاع النفط عن بقية القطاعات الاقتصادية التي إذا فصلنا قطاع النفط ومشتقاته عنها قضينا عليها. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي