المفهوم وإشكاليته ليس حديثاً ثقافياً وفكرياً بامتياز كما يتبادر أو كما يسوق له، فالإنسان في هذه الحياةِ تتكون لديه مفاهيمَ عن الأشياء وعن الأشخاصِ، بعضها يحدث بطريقةٍ صحيحةٍ، والبعضُ بطريقةٍ غالطةٍ، ولكل شيء سببهُ الذي يفسره أو يبرره، بيد أن هذه المفاهيمَ تتحول إلى سلوكياتٍ تتمثلُ في الأفعالِ أو ردودها، والإشكاليةُ في المفاهيمِ هي المهمة التي يجب الوقوف عندها، قراءةًَ للأسباب، وقراءة للآثار، إذا ما أردنا معالجةً ما لأي سلوك فردي أو جمعي نرغب في تطويره، أو نرغب في تقليله. سأعتبر الأحرف السالفة مقدمة لحديث أهم حول المفهوم، ذلك أن المفاهيم منتج بشري يمارسه العقل والنفس أو حتى الجسد بتعبيراته وتدليلاته، وهذا الإنسان المنتج للمفاهيم ليس نهائياً فهو المخلوق المكرم بآدميته «ولقد كرمنا بني آدم» ليس نهائياً هو وإنما هو كائن له منتهى «وأن إلى ربك المنتهى» وباعتباره الممارس للفهم والإدراك، والممارس للتطبيق والسلوك، فمن الضروري ألا يكون لديه نهائية في تنظيره ولا في تطبيقه. وباعتبار الزمان والمكان والظرف تتعدد له التوجهات وتتجدد له الأحداث، وله تجاهها المواقف والأحكام، كما أن له تجاهها الإبداع والاختراع، خلق معرفي، أو منهج سلوكي. والقرآن الكريم يؤكد ذلك حين يأمر نبيه محمد «صلى الله عليه وسلم» بالسؤال الرباني «وقل ربي زدني علماً»، كما يؤكده بقوله «ويخلق ما لا تعلمون» وبقوله «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم»، ومعنى ذلك أن الإنسان حين يحبس نفسه في سجن المفاهيم الضيقة ويمتنع عن التطوير المفهومي، والتغيير السلوكي، بل حين يعجز عن التجاوز لما لا ينفع ولا يشفع، فإنه يتخلى عن شيء، بل أشياء من قيمة وجوده ومعنى حياته، وليس أخطر على الإنسان من أن يحبس نفسه في فكرة خاطئة، أو خطيئة محيطه «وأحاطت به خطيئته». والسؤال الأكثر سخونة ونحن نطرح هذا الموضوع: ماذا عسانا أن نفعل إذا كان المفهوم بهذه الخطورة في تحولاته وتطوراته وفي قدرته على الحبس والتصميم أي تهميش الوجود وإقصاء المعنى، أو في الجانب الآخر قدرته على السبق والتقدم، والاكتشاف والاختراع. خطورة تواجه الإنسان في كل اتجاه «لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر»؟ إن الحل لهذا السؤال سيبقى هو الآخر مفتوحاً وساخناً، إذ لن يخرج عن مجموعة المفهوم ذاته بكل طبائع المفهوم وتشكيلاته، وهذا ما يزيد في الخطورة! ولكن لابد من الإجابة وبطريقة صريحة وصحيحة، وبشرط ألا تكون نهائية وختامية، بل لابد أن تكون خاضعة لمغيرات أحكام الوجود «الزمان والمكان والأحوال والأشخاص»، وفي رأيي أن الممازجة بين المفهومية والتوجه هو الحل الأفضل، إذ يفيد الإنسان من المقدرة المتاحة وتحويلها إلى منتج معرفي وسلوكي، مع إعطاء هذا المنتج الفرصة للإضافة والتحويل والتحوير والتطوير كلما زاد الاكتشاف المعرفي أو تغيرت الظروف والأحوال، أو تبدل الأشخاص. إن مثل هذه الممارسة هي الكفيل باستيعاب أكبر قدر ممكن من معنى وجود الإنسان، وتمثيل الحقيقية اللانهائية لديه، أي قدرته على تمثيل العظمة الإلهية في عمارة الكون وخلافة الأرض، وهو عندما يقصر في شيء من ذلك فهو يقصر في حق العظمة الإلهية، يقول القائد نيلسون مانديلا: «إن تقليلك من شأن نفسك لا يخدم العالم، ونحن خلقنا لكي نظهر عظمة الله الكامنة في داخلنا». ثمة عقبات تواجهنا في طريق «المفهومية والتوجه» وأكبر تلك العقبات ممارسات اعتدنا عليها، وكما يقول روبر تو أونغر: «البعض من ممارساتنا تقف بيننا وبين المنظر كما يرى من أعلى... من موضع الأفضلية الذي تتمتع به النجوم» وما لم نمتلك القدرة على التجاوز لهذه العقبات ولو بتفكيكها من الأذهان، وتحديث ثقافتنا حول الأشياء وسيرورتها، والعمل وفق الرؤى الأكبر والأهم، وبأهداف لا تنقصها المرونة الكافية للتنقل والتفاعل. عقول مفتوحة، ونفوس صافية. ترتفع بالذات إلى معراج الوصول، وتعتلي بها عن منخفضات التعقيد والتعسير، حتى تنطلق الروح كما هي الأرواح. لعل أكبر العقبات ذلك المركب الخطر، والمنتج المسموم تحت عنوان «الثوابت والمتغيرات»، وهو ما يستحق النقد بمقالة مقبلة «بإذن الله» وأنتم على خير. [email protected]