تحدّدت المعارضة السورية لسلطة الرئيس حافظ الأسد من خلال حدث مفصلي هو الدخول السوري العسكري إلى لبنان في 1 حزيران (يونيو) 1976: كانت المعارضة حصيلة اجتماع حزبين، هما «حزب الاتحاد الاشتراكي العربي» بقيادة جمال الأتاسي و «الحزب الشيوعي- المكتب السياسي» بقيادة رياض الترك بعد أن خرج الأول من «الجبهة الوطنية التقدمية» في أيار (مايو) 1973 نتيجة معارضته للمادة الثامنة في دستور 1973 التي تقول ب «قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع»، والثاني خرج من «الجبهة» أيضاً في كانون الثاني (يناير) 1976 بسبب وصوله إلى مفهوم «الديموقراطية» بدلاً من «الديموقراطية الشعبية». قادت معارضتهما الدخول السوري العسكري إلى لبنان إلى بدء تبلور طرح تغييري ديموقراطي جذري للأوضاع السورية الداخلية تمت ترجمته في كانون الأول (ديسمبر) 1979 بتشكيل «التجمع الوطني الديموقراطي». بالتوازي مع هذا كان «الإخوان المسلمون»، بجناحيهما: «التنظيم العام» بقيادة عدنان سعد الدين و «تنظيم الطلائع الإسلامية» بقيادة عصام العطار، يتّجهون إلى الصدام مع السلطة بعيداً من المهادنة التي انتهجوها منذ 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 وإن مع بعض الاحتكاكات مثل التي جرت في حماة وحمص واللاذقية ضد دستور 1973. بالتوازي مع هذا قام عروبيون، غادروا «حركة الاشتراكيين العرب» و «حركة القوميين العرب» و «تنظيم 23 شباط»، بتأسيس «رابطة العمل الشيوعي» في آب (أغسطس) 1976 التي رفعت شعار «إسقاط النظام». عند صدور «موضوعات المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي- المكتب السياسي- كانون الأول 1978» كانت «رابطة العمل» تنتقد «المكتب» بسبب طرحه التغييري الذي يغيب عنه شعار «إسقاط النظام». عند مفاوضات تشكيل «التجمُّع» اختلف «الاتحاد» و «المكتب» مع التنظيم السوري التابع للقيادة القومية لحزب البعث في بغداد الذي طالب بإضافة عبارة «إسقاط النظام بكل الوسائل الممكنة» ما جعل الأخيرين يتّجهون إلى التلاقي مع «الإخوان» الذين دخلوا في مجابهة مسلحة مع السلطة السورية منذ حادث مدرسة المدفعية في حلب في 16 حزيران 1979: كان «التغيير الديموقراطي الجذري» هو الفيصل كخط معارض يفصل «التجمع» عن «البعثيين العراقيين» الذين أيدوا العنف المسلح ل «جماعة الإخوان المسلمين» كوسيلة من أجل إسقاط النظام. في آب 1980، وبعد ستة أشهر من إفراج السلطة عن معتقلي «الرابطة»، تخلّت «رابطة العمل الشيوعي» عن شعار إسقاط النظام معتبرة أن الأولوية يجب أن تكون ضد جماعة الإخوان المسلمين قبل أن تقوم السلطة في آذار (مارس) 1982 بضرب وريث الرابطة منذ آب 1981 «حزب العمل الشيوعي» بعد شهر من انتصارها العسكري- الأمني على «الإخوان» في حماة. في كانون الأول 1989 تخلى «التجمع» عن شعار «التغيير» إلى «الإصلاح» وتبعه في ذلك «الإخوان»، وخصوصاً بعد تولي علي البيانوني منصب المراقب العام للجماعة عام 1996، وقد كان الأخير تجاه (العهد الجديد)، في فترة ما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد في 10 حزيران 2000، أكثر اعتدالاً من رياض الترك. في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2005 اجتمع البيانوني والترك و «الاتحاد الاشتراكي» عند تأسيس «إعلان دمشق» للعودة إلى البرنامج التغييري، ولكن، ما قاد إلى انشقاق «الإعلان» في 1 كانون الأول 2007 كان رفض «الاتحاد» «الاتجاه» الاستعانة بالخارج من أجل احداث تغيير داخلي» كما جرى في عراق 2003 ولبنان 2005، ما قاد إلى تشكيل «الخط الثالث» عام 2008 للتمايز عن خطي «السلطة» و «الإعلان» عبر خط وطني ديموقراطي للتغيير ضم الناصريين والماركسيين وحزبين يساريين كرديين. هذه المقدمة التحديدية التخومية للمعارضين السوريين ضرورية لتحديد المعارض السوري في زمن الأزمة السورية البادئة منذ 18 آذار 2011: المعارض السوري في زمن الأزمة، وبغض النظر عن ماضيه أكان في السجن أو في السلطة أو قاعداً في بيته، هو من يقول إن الحراك في الشارع السوري مبني أساساً على أسباب داخلية عميقة وناتج منها وبغض النظر عن المتحركين فيه أو من أين يتجمّعون، في الجامع أو غيره، وبغض النظر عن المحاولات اللاحقة للخارجَيْن الإقليمي والدولي استغلال الأزمة السورية، وأن الأزمة السورية، الناتجة من استعصاء توازني بين النظام والمعارضة لا يستطيع أحدهما التغلُّب على الآخر، تتطلب حلولاً، قالت «هيئة التنسيق»، التي هي استمرار ل «الخط الثالث» مع تطعيم تمثّل في «حزب الاتحاد الديموقراطي- PYD» عند تأسيسها في 25 حزيران 2011، ب «التغيير الوطني الديموقراطي» ولكن عبر انتقال «ينتج من اتفاق وتسوية بين المعارضة والسلطة»، فيما قال «المجلس الوطني»، وهو وريث «إعلان دمشق» مع تطعيمات جديدة عند تأسيسه في 2 تشرين الأول 2011 ب «إسقاط النظام» مع تأييد «العنف المسلّح المعارض» وبحث عن تكرار سوري ل «السيناريو الليبي» ضد القذافي الذي مارسه «الناتو» عام 2011. كل من كان موقفه سلبياً ومضاداً ل «الحراك» أصبح خارج المعارضة السورية، وبغض النظر عن ماضيه حتى وإن كان في السجون والزنزانات في مرحلة ما قبل 18 آذار 2011. انقسمت المعارضة السورية بين تغييريين وإسقاطيين وكان الانقسام على موضوعي «الاستعانة بالخارج» و «العنف المسلح المعارض» في مرحلة 2011- 2014. عندما تم تجاوز «سورية» الأزمة إلى تعريبها وأقلمتها منذ أيلول 2011 ومن ثم تدويلها منذ آذار 2012 أصبح «المعارض» و «الموالي» لا يفترقان فقط أمام «أسباب الأزمة» و «الموقف من القوى السورية المتجابهة» و «طرق حلول الأزمة ومضامينها» بل يختلفان أيضاً في الموقف من القوى الإقليمية والدولية الداخلة في الأزمة السورية. خلال خمس سنوات من الأزمة السورية كانت هذه المواضيع الأربعة ميداناً لانقسام خطي يشملها كلها يقسم الموالين والمعارضين إلى خندقين متوازيين. كان الاستثناء الوحيد هو الموقف من روسيا حيث لم تتجه «هيئة التنسيق» إلى معاداتها أو عدم التعامل معها كطرف مضاد بل اعتبرتها، بخلاف «المجلس» ووريثه «الائتلاف»، مفتاحاً للحل، مع واشنطن، في مرحلة «التدويل» الذي كانت محطته الأولى «مبادرة عنان» في 21 آذار 2012 ثم «بيان جنيف» في 30 حزيران 2012 الذي قال بانتقال تغييري عبر تسوية بين السلطة والمعارضة تترجم بالتشارك بينهما في «هيئة حكم انتقالية تملك كامل السلطات التنفيذية». مع «بيان جنيف» زاد انقسام المعارضة السورية بين التغييريين والإسقاطيين من خلال الخلاف حول هذا البيان وتحت المباني ذاتها: «الهيئة» بالتمايز عن «المجلس» و «الائتلاف»، ولكن أصبح هناك باب «بيان جنيف» للدخول إلى بيت «المعارضة»، كما حصل لحزب الإرادة الشعبية عام 2014 بعد فترة من إقالة الدكتور قدري جميل من منصب نائب رئيس الوزراء، فيما كان هذا الباب باباً للخروج من بيت «المعارضة» عبر طروحات قال بها معارضون سوريون منذ 2014 تقول بإجراء «مفاوضات موازية»، بعيداً من «التدويل» و «بيان جنيف»، سواء في دمشق أو طهران أو موسكو أو احدى عواصم دول مجموعة البريكس من أجل انتاج «تسوية» بعيداً من «التغيير عبر الانتقال» لتكون تحت خيمة الدستور الحالي أو «انتقال من حكومة إلى حكومة» كما قال وزير الخارجية السوري وليد المعلم في مؤتمره الصحافي في 12 آذار 2016 وليس «انتقال حكم» عبر «هيئة الحكم الانتقالية» التي يقول بها «بيان جنيف». منذ مؤتمر الرياض في الشهر الأخير من 2015 انتصر خط «التغيير عبر الانتقال» في المعارضة السورية على خط «إسقاط النظام»، وكان هذا هو الطريق إلى القرار 2254 في نيويورك وصولاً إلى «جنيف 3»: أمام صعوبات «جنيف 3» يطرح بعض المعارضين السوريين خطاً جديداً أقرب إلى «أوسلو سورية» بعيداً من «الهيئة العليا للمفاوضات» و «جنيف 3»، يقول بالاتجاه إلى عمل «تسوية سورية»، تحت رعاية دولية - إقليمية مصغرة، بعيداً من «التغيير عبر الانتقال» ليكون حلاً وسطاً بينه وبين «الانتقال من حكومة إلى حكومة» من خلال صيغة «حكومة لها كل الصلاحيات التنفيذية ما عدا الجيش والأمن» تشرف على إعداد دستور جديد ومن ثم انتخابات. هؤلاء لا يدركون أن «التسوية السورية»، وفق الموازين الدولية- الإقليمية- السورية الراهنة، لا يمكن أن تكون سوى بين «السلطة السورية» و «الهيئة العليا للمفاوضات» المنبثقة من مؤتمر الرياض الذي ولد في «لقاء فيينا 2»، وأن لا بديل من «الهيئة العليا للمفاوضات» ولكن يمكن تطعيمها، وأنه من دونها لا يوجد «جنيف 3»، وأن كل «تسوية» أخرى سيكون مصيرها الفشل على الأرض، لأن أكتاف حامليها من المعارضين لا تكفي لتحقيقها، ولن يكون مآلها سوى احتراق طرفها المعارض، فيما تبقى خيارات السلطة السورية مفتوحة أمام كل تسوية مقبلة. على الأرجح سيكون هناك حل وسط بعيداً من تلك «الأوسلو السورية» وعبر «جنيف 3»، الذي يحرص باراك أوباما على إنجاحه، مع تسويتي ليبيا واليمن، لطي ملفات الشرق الأوسط قبل التركيز الأميركي على ملفات الشرق الأقصى، وهو حرص يشاركه فلاديمير بوتين الذي يعيش هاجس عدم نجاح الاتفاق مع أوباما ومجيء رئيس أميركي جديد متشدد، سواء كان من الحزب الديموقراطي أم من الجمهوريين، يقلب الطاولة عليه، فيما أوباما يقوم بإرضائه في التسوية السورية وربما بعدها التسوية الأوكرانية من أجل كسب الروس ضد الصينيين الذين يعتبرهم الرئيس الأميركي الخطر الرئيس على «القطب الواحد للعالم». * كاتب سوري