في أزمنة التأزم الثقافي والحضاري تميل الأمم إلى العزلة، إلى العودة إلى أصل موحد، ظانة أنها نشأت وتطورت وصعدت في مدارج التحول منقطعة عما حولها من حضارات. لكن الأصل في الأشياء هو التراكم، فلا تنشأ الثقافات والحضارات من فراغ، لا تأتي من عدم، بل هي نتاج بناء على ما سبقها، وما استفادته من الثقافات والحضارات التي جاءت قبلها، وما طورته من أفكار وصناعات ورؤى وتصورات للعالم. هذا حال الحضارات جميعاً، التي صعدت في الماضي وآلت إلى زوال أو إنها أسست لما بعدها من حضارات. هذا هو حال الحضارة الغربية التي تتربع على قمة العالم الآن، فهي استفادت من الحضارة العربية الإسلامية، وعادت إلى حضارة الإغريق لتبني قاعدتها الثقافية الكلاسيكية. الأمر نفسه هو حال الحضارة الإغريقية التي تقول لنا المكتشفات الحديثة والمراجعات الدقيقة إنها استفادت من الحضارة الفرعونية كثيراً في التأسيس لقاعدتها الحضارية وتطوير معارفها التي طورتها في ما بعد حضارتنا العربية الإسلامية. من هنا ينبغي التشديد على كون حضارتنا لم تنبثق في انقطاع عما سبقها، بل مثلت نتاج تلاقح مدهش بين الثقافات والحضارات التي نشأت في المنطقة أو مرت عليها في السلم أو الحرب. وقد تراكم في إطار البحوث والدراسات ميراث هائل من عمليات البحث والتنقيب والمقارنة التي تدرس تراثات الشعوب والحضارات السابقة التي انسربت في تراثنا؛ دراسات تبحث الأثر اليوناني في الثقافة العربية، والأثر الفارسي والهندي، والسومري والكنعاني والفينيقي. وقد قام بهذه الدراسات والبحوث اللافتة باحثون عرب وأجانب، واشتغل رهط من أبناء الحضارة العربية الإسلامية ومستشرقون بجدية لافتة، بحسن نية أو سوء نية، لكن ما تحصل لدينا كان مدهشاً وكاشفاً بالفعل. ومع هذا فإن الثقافات الحية لا تتوقف عن العمل، ومحاولة الكشف عن الأصول والمؤثرات لتعرف أي وجهة تأخذ في المستقبل، وأي أفق تعانق. يذكرنا هذا بالمؤتمر الذي عقد أخيراً في مكتبة الإسكندرية الماضي في عنوان «التواصل التراثي» الذي كان مهجوساً بهذه الفكرة: كيف نصنع من ثقافتنا متصلاً حضارياً لا ينقطع عما حوله، ما سبقه، وما لحقه كذلك. وقد استقطب المؤتمر ستة وأربعين باحثاً من ستة عشر بلداً عربياً وأوروبياً، وكوكبة من العلماء الكبار الأجلاء الذين أعادوا طرح سؤال العلاقة بين الثقافة العربية الإسلامية وما سبقها وجاورها من ثقافات، وكيف تفاعلت ثقافتنا مع تلك الثقافات. وقد طرح الدكتور رشدي راشد، وهو احد أهم مؤرخي العلوم العربية، أن العرب عندما ترجموا الفلسفة اليونانية جددوا هذه الفلسفة في اللحظة التي كانوا يترجمون فيها. هذا يعني ان الفكرة الشائعة القديمة التي تقول بأن العرب ترجموا ثم تفاعلوا ثم أبدعوا غير صحيحة. وقد ضرب الرجل أمثلة من ترجمة أبي يعقوب الكندي، فيلسوف العرب الأول، لأرسطو. وكذلك فعل حسن حنفي، العالم الذي يثير على الدوام حيوية وجدلاً وأسئلة عميقة، حين تحدث عن جدل الانقطاع والتواصل في الميراث العربي الإسلامي. واستكمل صورة هذا المؤتمر العلمي رفيع المستوى باحثون وأكاديميون ومتخصصون عرب وأجانب، حين درس كل منهم زاوية محددة من التواصل بين الحضارة العربية الإسلامية وما سبقها من حضارات؛ وظهرت بحوث تعيد النظر في ترجمة العرب لرياضيات إقليدس وفلسفة أرسطو، ورحلة حمام السوق الروماني إلى دمشق وحلب والقاهرة، وتصور العرب للأرض. ولا شك أن بعض هذه البحوث قد أعاد سرد ما نعرفه، لكن البعض الآخر منها طور أفكاراً دقيقة وجديدة حول كيفية انتقال العلوم والمعارف والفلسفات عبر الثقافات، وشكل نقطة بداية لإعادة بحث ما أصبح بمثابة المسلمات في ما يتصل بتاريخ تأثر الثقافة العربية بما سبقها. المهم في هذا المؤتمر، المعد له بدقة، والفضل في ذلك يرجع للصديق الدكتور يوسف زيدان مدير مركز المخطوطات في مكتبة الإسكندرية، هو قدرته على إثارة أسئلة جديدة، أو حتى طرح أسئلة قديمة لكن لم يتم حسم الجدل بشأنها حتى هذه اللحظة؛ وكذلك جعل باحثين من شرق العالم وغربه يلتقون للتأكيد على تفاعل الثقافات وحوارها لا على صراعها وتقاتلها والصدام المدمر بينها الذي شدد عليه المفكر الأمريكي الراحل صمويل هنتنغتون.