لابد من القول إن العزاب يكونون هدفاً للتمييز وللصور النمطية مقارنة بالمتزوجين أو الشركاء. جوهر الانحياز ضدهم مستمد من المخزون اللاشعوري للذات الجماعية، أو من اللاوعي الجمعي بمصطلحات يونج وما يعتمل فيه من عقائد وأساطير. تسمى تلك الظاهرة السنجلزم Singlism، وقد أثبتت الدراسات التي أجريت في المجتمعات الغربية أنها موجودة في بنية التفكير ، إذ يعتقد الناس أن العزاب يتصفون بعدم النضج وضعف التوافق ونقص الجاذبية والمشكلات المعيقة لاختيار شركاء، وأن المتزوجين أكثر سعادة واستقراراً منهم. وتلعب ميثولوجيا الزواج والأيديولوجية المرتبطة بالحياة العائلية - التي مازالت موجودة على رغم كل التحولات الهائلة التي مرّ بها الغرب - دوراً مفصلياً في عملية السنجلزم. ومع أن الناس يعتقدون بوجود فروقات بين الشركاء وبين العزاب في الرضا عن الحياة ومستوى الدعم الاجتماعي والصلابة النفسية والتوافق لمصلحة الشركاء، إلا أن الدراسات المقارنة لم تثبت وجود اختلافات جوهرية بين الفئتين في هذه المتغيرات، مما يعني أن هناك هوة بين أفكار واعتقادات الناس السلبية حول العزاب وبين الواقع الفعلي لهؤلاء العزاب. ما أريد أن أصل إليه هو أن أنور حين عاش عازباً فقد كان ذلك في المجتمع المصري خلال حقبة الخمسينات والستينات، أما من فسر سبب عزوبته في كتاب صادر في منتصف السبعينات فقد كان رجاء النقاش الذي على رغم ألمعيته فقد كانت تحده أحياناً الأفكار النمطية والقوالب الجاهزة. إذاً رأي رجاء كان قائماً على الحدس والتخمين ومتأثراً بالستريوتايب كتشويه معرفي، أو استراتيجية معرفية منحازة، أو مدفوعاً بالتصور التقليدي بأن النهاية الطبيعية للرجل الصالح هي الزواج وتأسيس أسرة وإنجاب أبناء. لكن الجحود الذي واجهه أنور من المجتمع الثقافي خلال السنوات الأخيرة من حياته، وتضافر الأزمات النفسية والأمراض الجسدية عليه، وهي الأمراض التي أودت بحياته عام 1965 وهو في الخامسة والأربعين، جعله ذلك كله يعاين بشكل صادق وأصيل الهموم النهائية التي حددها يالوم في: الموت والحرية والعزلة واللامعنى. وما تشبيه محمود السعدني لحالة أنور - المنسحب من الحياة المعتكف في قريته الجافل حتى من صوت المذياع - بمن يريد العودة إلى رحم الأم من جديد سوى تمثيل دقيق لمعاناته النفسية والوجودية. وعلى ذلك فإن انشغالات أنور واهتماماته، بحكم مصيره وقدره، وبحكم تكوينه النفسي والثقافي كانت مختلفة عن انشغالات وهموم الرجل العادي. كما أنه كان ناقداً موهوباً، وإنساناً مثقفاً له رؤاه ورؤيته وفلسفته في الحياة، وقد يكون لديه تقويمه الخاص لمؤسسة الزواج برمتها. كما قد يكون فيه شيء من سيكولوجية المبدع في نزعته الآنية وتمركزه حول ذاته وضعف دافعيته الاجتماعية، ومن كان على هذه الشاكلة فليس بالضرورة أن يكون مريضاً بالعجز إن لم يخضع للنهايات الطبيعية المفترض أن يخضع لها الناس العاديون. الطريف أن أنور نفسه قال في معرض تحليله لشخصية كمال الابن الأصغر المثقف في ثلاثية محفوظ: «ليس كل عازف عن الزواج يعدّ تركيبة نفسية مشوهة، قد يكون العزوف بالنسبة إلى المثقفين موقفاً من المواقف إزاء الحياة الزوجية». ثم تابع ضارباً المثل بسيمون دو بوفوار التي اختارت أن تكون لسارتر رفيقة فكر لا رفيقة حياة، لأن الوجود في رأيها عبث، وهي لا تريد عن طريق الزواج والأطفال أن تشارك في مشكلة التكثيف الكمي لهذا العبث. العجيب أن رجاء في هذه الجزئية كان مثل من (يقص ويلصق)، فقد أخذ فرضية الجنسانية المقتولة من أنور نفسه، ليكون مثل من يعيد للرجل بضاعته من دون نقص أو زيادة. فأنور كان قد نشر في مجلة «الآداب» مقالة عنوانها (مشكلة العلاقة بين مي وجبران)، وقد سأل في إحدى رسائله فدوى إن كان خطر في بالها أنه يعنيها وهو يتحدث عن مي! وتتلخص المقالة في أن مي لم تكن في رأي أنور امرأة سوية، بل كانت تعاني مما سماه (الأنوثة المقتولة)، فهي تثير ولا تُثار وتفتقر إلى الميل الطبيعي، إلى الارتباط العاطفي برجل تؤسس معه أسرة وتنجب منه أبناء. وسواء كان أنور قصد مي أم فدوى بشكل غير مباشر على طريقة «واسمعي يا جارة» فإن رجاء قد تلقف منه هذه الفرضية وطبقها عليه في عملية معاكسة بطريقة العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. ولم يأبه رجاء بكونه ينقل فرضية أنور نقلاً يصل حد التطابق، بل أوجد لنفسه فوق هذا مسوغاً وهو يقول: «هذا هو ما كتبه المعدّاوي عن مي وإذ أخذنا بمقاييسه، فنحن نردد الأسئلة نفسها حول شخصيته ... لماذا يهرب من الحب عندما يولد في حياته؟ ولماذا ينهي علاقته العاطفية عندما تقترب من النجاح». وحتى يصبح سحر أنور قد انقلب كلياً عليه، فإن رجاء يستطرد: «لماذا يرى هذا التفسير الغريب لشخصية مي، إن لم تكن هناك فكرة ثابتة مسيطرة على ذهنه وهي فكرة الأنوثة المقتولة أو ما يقابلها من الرجولة المقتولة؟». والمفارقة أن أنور الذي تتبع مي في حياتها وصالونها الأدبي ليثبت أنها عرفت من لا تنقصه الرجولة ولا الشهرة ولا المكانة، لكنها ظلت مقتولة الأنوثة، وجد بالمقابل من يتتبع حياته الشخصية هو، ونتاجه الأدبي والنقدي، ليثبت عليه تهمة الرجولة المقتولة. أخيراً، لا شك بأن طبيعة العلاقة التي ربطت بين فدوى وأنور ستبقى مجالاً لتعدد القراءات والتفسيرات... وهذه المقالة ليست سوى محاولة في هذا الاتجاه.