إن مسألة إباحة الغناء في الشرع، قال بها الكثير من العلماء على مر العصور. يقول الإمام الشوكاني في كتابه «إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع»: إن ممن أباح الغناء عبدالله بن جعفر، وعبدالله بن عمر، رضي الله عنهما. وأن عبدالله بن الزبير كان له جوار يعزفن على العود. وحين دخل عليه ابن عمر، سأله: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه، فقال: هذا ميزان شامي، فقال ابن الزبير: توزن به العقول. وذكر الشوكاني بعضاً ممن أباح الغناء مثل: القاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وابن حزم، وعبدالعزيز بن سلمة بن الماجشون مفتي المدينة، والعز بن عبدالسلام، وأبو إسحاق الشيرازي. اهتم المسلمون الأوائل اهتماماً كبيراً بالشعر، وجعلوا من إيقاعاته وأوزانه المتعددة مجالاً يرتبط بالإيقاع والموسيقى، وكان يُغنّى عن طريق وسائل الحداء. وحداء الإبل كان لحناً بدائياً محدوداً. ففي حديث أنجشة: «رويدك رفقاً بالقوارير»، فكأنه عليه الصلاة والسلام يشير إلى أنجشة، ألا ينشد بالمقام المتسارع، حتى لا تتأثر النساء وأن يحدو بلحن بطيء ممدود، كما هو لحن الصبا المعروف اليوم، وهو لون من ألوان الرصد. من الشواهد الحديثية في استحسان الأصوات العذبة المطربة، ورد في «فتح الباري» قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأبي موسى الأشعري وقد أعجبه حسن صوته: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود». في «الصحاح» أجاز الرسول «صلى الله عليه وسلم» الغناء في قوله: «يا عائشة ما كان معكم من لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو». وفي رواية أخرى: «أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت: نعم. قال: وبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا. قال: أو ما علمتم أن الأنصار يعجبهم الغزل؟ ألا بعثتم معها من يقول: أتيناكم أتيناكم نحييكم نحييكم ولولا الحبة السمراء لم نحلل بواديكم في «الصحيحين» عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: «دخل عليّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان وتضربان الدف... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد». قال النووي في شرحه للحديث: «وإنما سكت النبي صلى الله عليه وسلم عنهن؛ لأنه مباح لهن». وعن السائب بن يزيد قال: «إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة، تعرفين هذه؟ قالت: لا، يا نبي الله. قال: هذه قينة بني فلان، تحبين أن تغنيك، فغنتها». روى الزهري، عن السائب بن يزيد، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال في بعض أسفاره لرباح بن المعترف: غنني، فغناه شعراً: أتعرف رسماً كالطراز المذهب بعمرة قفرا غير موقف راكب في «السير» يقول عبدالله بن عوف: «أتيت ابن عمر وهو يغني بالركبانية فسمعته يقول شعراً: فكيف ثوائي بالمدينة بعدما قضى وطراً منها جميل بن معمر روى ابن قتيبة بسنده إلى سليمان بن يسار، أنه سمع سعد بن أبي وقاص يتغنى بين مكةوالمدينة، فقال سليمان: أتفعل هذا وأنت محرم؟ فقال سعد: يا ابن أخي وهل تسمعني أقول هجراً؟ روى البيهقي أن سليمان بن يسار، سمع عقبة بن عمر، وهو على راحلته، وكان أميراً للجيش، يتغنى بالنصب. وروى بسنده عن وهب بن كيسان قول عبدالله بن الزبير: ما سمعت رجلاً من المهاجرين إلا وهو يترنم. المصادر الأدبية والتاريخية، منها على سبيل المثال: «مروج الذهب ومعادن الجوهر» للمسعودي، و«الأغاني» للأصفهاني، و«العقد الفريد» لابن عبد ربه، وكثير غيرهم من الأقدمين، تناولت موضوع الغناء في الحجاز، مصورين ما كانت عليه مجالس الحجازيين في العصر الجاهلي، وعصور الإسلام الأُوَل. واحتوت نصوصهم على ضروب من الأخبار والمرويات. النويري في «نهاية الأرب» تناول موضوع الغناء والسماع، وما ورد في ذلك من الحظر والإباحة، وما استدل به من رأى ذلك، ومن سمع الغناء من الصحابة والتابعين والأئمة والعبّاد والزهّاد، ومن غنَّى من الخلفاء والأشراف والقُوَّاد، وأخبار المغنين والمغنيات. وقد حذا حذوه الشيخ عبدالغني النابلسي في مخطوطه «إيضاح الدلالات في سماع الآلات». من أعلام الغناء المكي في صدر الإسلام: سعيد بن مسجح «ت85ه» مولى بني جمح. أخذ عن الفرس والروم أجمل ألحانهم، وصاغها صياغة مكية حتى قيل بأنه أول من وضع أسس اقتباس الألحان من الثقافات الفنية المجاورة. وبرز ابن سريج «ت 98ه»، وهو مولى لبني نوفل بن عبد مناف. اشتهر بلبس الجمة «الشعر المصطنع»، وكان يغني متقنعاً برداء على وجهه لجذام أصابه. ومسلم بن محرز «ت 140ه»، ولقب بصناج العرب لإجادته العزف على الصنج. ويعدّ أول من غنى في الحجاز على إيقاع الرمل. ويعدّ ابن سريج أحد أعمدة الغناء الأربعة في الحجاز، وهم مكّيان: ابن سريج وابن محرز، ومدنيان: معبد ومالك الطائي، من أول من استخدم العود في مكة. ومن أعلام الغناء المدني في صدر الإسلام سائب بن يسار «ت 64ه». برع في العزف على العود فأطرب أشراف المدينة ومنهم عبدالله بن جعفر واستدعاه معاوية للغناء. وكان ممن أبدع في الغناء في المدينة، وابتكر الإيقاع الذي سمي بالثقيل الأول، وغنّى به للمرة الأولى في تاريخ الغناء العربي. ومعبد بن وهب «ت 126ه»، من موالي بني مخزوم. درس فن الغناء على سائب، وبرع حتى لقب بأمير المغنين. ويونس بن سليمان الكاتب «ت 135ه» وهو مولى لعمرو بن الزبير، أخذ الغناء عن ابن سريج، ومعبد، وابن محرز، والغريض. غنى أشعاراً سميت بالزيانب تغزلاً في زينب بنت عكرمة. ويعد يونس الكاتب وفقاً لما جاء في «فهرست» ابن النديم أول من ألف في الغناء في المدينة من خلال كتاب «النغم» وكتاب «القيان». ومالك بن أبي السمح «ت 137ه» تيتم صغيراً، فرباه عبدالله بن جعفر، وتعلم الغناء من معبد. وغنى في مجالس يزيد بن عبدالملك، والوليد بن يزيد. * باحث في الشؤون الإسلامية.