ها هي «مواسم السينما العربية» تعود الى باريس في دورة ثانية، لتعرض سينما عربية تشهد «دفعاً جديداً يوازي التغيرات التي تشهدها المجتمعات العربية على الصعيدين السياسي والمجتمعي»، ولتقدّم السينما في بعض تعابيرها الأقوى والأهم مساهمة في «تقويم الصورة المشوّهة للإنسان العربي، التي يقود إليها التطرف والرؤى الأحادية الجانب». في 2011، انطلقت في باريس تظاهرة «ربيع السينما العربية» تماشياً مع ثورات الربيع العربي. لم يقدّر لها، في ظل انعدام الإمكانات، الاستمرار سوى سنة واحدة. إنما على رغم هذا وانسحاب البعض، قرر فريق قليل العدد متحمّس للسينما العربية، المتابعة مع المواسم والاستمرار على رغم انعدام الدعم المالي. المؤسسات الفرنسية لم تعد تجود بالمال لتظاهرات صغيرة مثل هذه، كما تقول لنا الصحافية والإذاعية هدى ابراهيم، رئيسة جمعية «مواسم» التي تنظّم العروض. هذا يحدث في بلد الثقافة والمثقفين وفي عهد الاشتراكيين، «بل أكثر في عهدهم!» تستغرب. نتساءل عن التعاون مع معهد العالم العربي في باريس الذي يهتم بالسينما العربية، ويمكنه أن يكون داعماً أو مشاركاً لتظاهرات كهذه، فتجيب هدى بأنه كانت هناك رغبة من المعهد في التعامل معنا، لكننا «اكتشفنا أننا لن نبقى على استقلاليتنا التي نتمسك بها، ففضّلنا أن نبقى مستقلين ولو من غير إمكانات وننشط على قدرنا بعرض ما نحب وليس ما يمكن أن تفرضه علينا مؤسسة ما». إذاً، هذه التظاهرة ليست إلا محصلة جهد فردي لجمعية مكونة من ثلاثة أفراد يمنحون الكثير من وقتهم للعمل الطوعي، تساندهم صالة فرنسية «لا كليه» تقدّم لهم شاشاتها للمرة الرابعة على التوالي، وبضعة من منتجين وموزعين ومخرجين رضوا بمنح أفلامهم للعرض غالباً من دون مقابل. تظاهرات فقيرة كما نعرف، تتحمل المهرجانات اليوم تكاليف لم تكن حتى الأمس القريبة معنية بها ألا وهي دفع أجور مشاركة الأفلام فيها، أسعار يطلبها الموزعون تفوق أحياناً الأربعمئة يورو لكل فيلم! فهل يتعاملون بالمثل مع تظاهرات «فقيرة» ليس في مقدورها الدفع سوى من جيوبها، وهل يؤثر هذا في معايير الاختيار للمنظمين؟ نسأل هدى بفضول. فترد بأن معظم الجهات المنتجة التي تعاونوا معها كانت متفهمة، والجهات التي لم تتفهم لم يقدموا أفلامها، «هي معادلة بهذه البساطة»! وبالطبع، يصعب الحصول على الأفلام «الجديدة جداً والناجحة جداً»، لكن ما تعرضه «مواسم» يضاهي في جودته الأفلام التي لم يحظوا بها، إنما هي فقط لا تتمتع بالحظوظ نفسها من العرض في السوق الفرنسية أو الأوروبية. للتظاهرة طابع حميمي خاص بعيد من أية منفعة مادية، يحركه حب السينما. فالمنظمون اختاروا الأفلام التي أحبوها والتي لا تخيّب أمل جمهور متمرس بالسينما كالجمهور الباريسي، وهم يصرون على عرض أفلام «يفخرون بوجودها وتحاول أن تلتزم واقعنا وحكاياتنا وتقول هوياتنا المتقلقلة عبر أساليب فنية عميقة وشفافة». وداع وصمت وكومبارس... يبرز البرنامج الذي تقدمه التظاهرة حيوية السينما المستقلة كما هذه الأصوات الجديدة القادمة، على حد تعبير هدى، التي تخوض ثورتها مدفوعة بحيوية التحولات وعمقها. فثمة أسماء جديدة وتجارب بصرية لم يسبق عرضها في باريس ومعالجات متنوعة في مضمونها كما في شكلها، الذي يتراوح بين الكلاسيكي المتقن والفني التجريبي من دون إهمال تجارب أخرى ما زالت تبحث عن هويتها، لكنها تعبق بعطر الأشياء غير المكتملة بعد، الأشياء البكر. والدورة الحالية (من 7 - 11 نيسان/ إبريل) مهداة لذكرى المخرج السوري نبيل المالح الذي رحل في شباط (فبراير) الماضي، وستكرس جلسة خاصة لذكراه تتضمن عرض فيلمه «الكومبارس» (1993)، في حضور مدير تصوير الفيلم حنا ورد، وعدد من المخرجين السوريين الموجودين في باريس الذين سيتحدثون عن الراحل. الفيلم من أشهر ما أنجز المالح، ويتناول صعوبات اللقاء بين متحابين. بعد أشهر عدة من اللقاءات في الساحات العامة، يبذل سالم كل ما في وسعه للحصول على شقة صديقه للالتقاء بندى التي يحبها في جو أكثر حميمية. لكن حين يتحقق حلمه، يظل الخوف والعجز مسيطرين على أجواء لقائهما... سالم الذي يعمل في محطة وقود، يهرب من عالمه إلى المسرح حيث يقوم بأدوار عدة ككومبارس. ثمة أربعة أعمال روائية طويلة أخرى لم يسبق لها العرض في باريس، إلى جانب خمسة وثائقية وأحد عشر شريطاً قصيراً. وتمثل الأفلام المعروضة أحد عشر بلداً عربياً، هي: تونس والمغرب وسوريا والجزائرولبنانوفلسطينوالإمارات والسعودية وموريتانيا ومصر. ويفتتح العراق التظاهرة مع «قبل سقوط الثلج» لهشام زمان، الذي يحكي قصة شاب كردي عراقي كلفته العائلة بالذهاب للعثور على أخته لغسل العار الذي سببته بعد هربها يوم زفافها. غير أن الأخ وفيما هو يسير على خطى أخته بدءاً من كردستان وصولاً إلى أوروبا، تتصارع في داخله القيم وتتأرجح بين ضرورة التمسك بالعادات والتقاليد القديمة وبين التحولات التي تطرأ عليه خلال رحلته. ويختم التظاهرة العراق أيضاً، مع «صمت الراعي» لرعد مشتت وحكاية زهرة ابنة الثالثة عشرة التي تعيش في قرية في جنوبالعراق وتختفي يوماً. حقيقة اختفائها الذي يهز شرف القرية والقبيلة لا يعرفها سوى راع يلوذ بالصمت! ومن مصر، يعرض «باب الوداع» لكريم حنفي، الذي اعتبره النقاد أحد أهم الأفلام المصرية التي عرضت للعام الفائت. فيلم تجربة بصرية وشاعرية تحاول النفاذ إلى قلب الروح الحزينة الباحثة عن خلاص أو التي تراوح في الأسى بعد غياب عزيز. إنما ثمة «أفراح صغيرة» مع المغربي محمد شريف، الذي يصوّر عبر قصة الشابة نفيسة العادات والأزياء والموسيقى الأندلسية التي عاشتها تطوان منتصف الخمسينات. الوثائقي والقصير... فورة يحتل الفيلم الوثائقي والقصير مكانة خاصة في التظاهرة، لا سيما مع هذه الفورة القيّمة والمثيرة في الإنتاج العربي لهذا النوع. يعرض الوثائقي قضايا متنوعة في الراهن العربي. مثلا، في «رحلة في الرحيل» للفلسطينية هند شوفاني، ثمة سرّ لم تكن تعرفه عن عمل والدها الغامض، «كان لدينا حراس ومسدسات وسيارات، وبيت تهيمن عليه أحاديث هامسة بمخططات ومؤامرات سياسية، وكنت إن سئلت عن عمل والدي كان عليّ الإجابة بأنه «كاتب». أما في «لي قبور في هذه الأرض»، فيلم رين متري الممنوع في لبنان، فعكس للواقع المشحون والاحتقان السائد في النفوس وما تحتفظ به من زمن الحرب التي تتواصل في شكل ما على أرض الواقع، والذي ظهر بعد قرار بيع أرض المخرجة في «قريتها المسيحية» لمشتر مسلم. ومن تونس، شبان مسحوقون قبل الثورة وبعدها وعجز عن تحقيق أهدافهم، على رغم كدهم المتواصل، في «القرط» للتونسي حمزة عوني مواكبة ثاقبة ليوميات قاسية لنموذج من الشباب المهمش. وموضوع جديد من الإمارات مع «سماء قريبة»، الذي يلقي الضوء على المجتمع البدوي المتراجع أمام مدّ المدن في الخليج. ومن فلسطين «روشميا»، سليم أبو جبل مع تحول سيطرأ على حياة زوجين مسنين بعد تهديم منزلهما في وادي روشميا بعد قرار بلدية حيفا شق طريق عبر الوادي. أما في اختيارات «مواسم» للأفلام القصيرة، فثمة العديد من الأعمال القيمة التي تكشف عن محاولات جيل جديد موهوب ومبدع، حيث حصل عدد من الأفلام المعروضة على جوائز عالمية، ومنها «أمواج» إيلي داغر الحائز السعفة الذهبية في كان، و «حورية وعين» لشهد أمين من السعودية، و «عشتار وايزيس» لمي مصطفى من موريتانيا، و «فتزوج روميو وجولييت» لهند بو جمعة من تونس، وأفلام أخرى من الجزائر والمغرب ولبنانوفلسطين... سينما عربية جديدة في «مواسم» تدافع عن الحرية وتتناول الشرط الإنساني وتحكي الأمل كما اليأس، الذات والآخر، وفي الوقت الذي يريد تنظيم «داعش» السيطرة على العقول والأمكنة، تطمح تظاهرة مواسم عبر اختياراتها السينمائية الى إعلان السينما «مكاناً للحلم».