بدت تظاهرة «مواسم السينما العربية» في باريس والتي أقيمت على مدى ثلاثة أيام من العروض الغنية والمكثفة بين 21 و23 آذار (مارس)، خاصة في أكثر من معنى إذ هي تتماهى في استقلاليتها واعتمادها على جهود أفراد محصورين مع تلك السينما الجديدة المستقلة والنابضة بإيقاع جديد في بلادنا، تلك السينما التي سعت «مواسم» وستسعى لتقديمها للمشاهد العربي والفرنسي في عاصمة النور. وإذا كانت التظاهرات الخاصة بسينما العالم العربي تتعدد في باريس وتركز خصوصاً على سينما المغرب العربي التي تحتضنها أكثر من تظاهرة، أو السينما الفلسطينية - الإسرائيلية التي تخصص لها تظاهرة خاصة أيضاً، فإن تظاهرة «مواسم» في دورتها الأولى تملك ادعاء امتلاك نظرة شاملة على الإنتاج العربي في وثائقييه وروائييه، والأعمال القصيرة والتجريبية وهي أقرب إلى الشباب الباحث في هذه السينما لذلك فقد قدمت التظاهرة أعمالاً قصيرة جداً من نوع الفيلم كليب ولم تقتصر في تقديمها لتجربة «أبو نضارة» وتخطتها إلى أعمال كثيرة أخرى مثل «48» الفلسطيني أو «شق في الذاكرة» السوري. تظاهرة «مواسم» الحديثة الولادة تعتبر استمرارية لدورتين سابقتين من «ربيع السينما العربية» وأقرب إلى الاهتمام بشكل أشمل بالسينما العربية لكن في ملامح وعلامات بارزة تلوح في الاختيارات الساعية لتقديم هوية وحضور مختلف ونوعي لهذه السينما على الساحة الباريسية. الاستقلال حرية وتكتسب هذه التظاهرة أهمية أيضاً من حيث استقلاليتها ما يمنحها حرية واسعة في أن تختار ما تعرضه ضمن مسعى قائم على الثقة والصداقة والحب للسينما يربط بين صنّاع التظاهرة وصنّاع الأفلام في وقت بدا فيه الكثير من المهرجانات العربية الكبيرة أسيراً لما التزم بإنتاجه من أفلام عربية يقدمها في مسابقاته. «مواسم» تمتلك من الحرية والاستقلالية ما يجعلها تختار من النتاج السينمائي العربي على مدى سنتين سابقتين ما بدا لها أنه جديد ومعبّر وخاص ومختلف ويستحق التقديم للجمهور الآخر المنفتح على أفلام من العالم. وسعت جمعية مواسم التي بادرت إلى تقديم السينما المستقلة العربية بخاصة من المشرق العربي في هذه الدورة الأولى، باعتبار أن أكثر من مهرجان في باريس وضواحيها يقدم السينما المغاربية، عبر برنامجها إلى تقديم لمحة عن هذا النتاج العربي الجديد والشاب والإبداعي المستقل أو التجريبي. هذه النقاط هي ما حكم الاختيارات في برنامج مواسم هذا العام والذي ضم 47 شريطاً من ثمانية بلدان عربية إضافة إلى فرنسا وقدمت العروض في سينما «لاكلي» مرتكزة على جهد أفراد محدودين محبين للسينما وعارفين بحالها. وشملت التظاهرة عشرة أفلام طويلة أربعة منها روائية وبينها فيلمان لمخرجتين من مصر: هالة لطفي في «الخروج للنهار» وماغي مرجان في «عشم» وكلاهما عمل أول ملفت. ورغب المنظمون في تقديم شريط المخرج العراقي الكردي هينر سليم المقيم في باريس «ماي سويت بيبر لاند» الذي يخرج إلى الصالات الفرنسية يوم 9 نيسان (أبريل) في عرض أول في افتتاح التظاهرة رغبة في التعبير عن أن سينما العالم العربي ورغم التناقض الظاهر هي أيضاً سينما متعددة ولو كانت بلغات أخرى وأن هذه السينما الكردية النامية والتي باتت مهمة وحاضرة في مشهد المنطقة السينمائي أكثر من أي وقت مضى، هي من ضمن المشهد. وكان اختتام التظاهرة لفتة خاصة قدمتها التظاهرة لشريط استعادي، قليلاً ما عرض، وهو شريط «اليازرلي» للمخرج العراقي قيس الزبيدي وقدم الشريط في ترجمة فرنسية قرئت على نحو مباشر في القاعة. و«اليازرلي» صور عام 1972 ليعرض أول مرة عام 1974 وهو من إنتاج «المؤسسة العامة للسينما» في دمشق وممنوع من العرض حتى اليوم وأنتج خلال الفترة الذهبية لتلك المؤسسة بالتزامن مع إنتاج أعمال مثل «الحياة اليومية في قرية سورية» لعمر أميرالاي، و»إكليل الشوك» لنبيل المالح و»رجال في الشمس» الذي أنجزه ثلاثة مخرجين في ثلاثة فصول. «مواسم السينما العربية» أقيمت بمن حضر من المخرجين والمنتجين وهي في هذا الجانب اختلفت أيضاً عن المهرجانات الكبيرة باعتبار أن القيمين عليها لم يتلقوا مساعدة مالية من أي طرف وهي ركزت على عروض نوعية للأفلام أعقبتها نقاشات وأسئلة مهمة من قبل الجمهور الذي جاء متسلحاً بوعيه ومعرفته بمادة السينما. وإذا كان جمهور التظاهرة محصوراً فهو تفاعل بشكل كبير مع الأفلام المعروضة وقدرها... «هدفنا هو طرح الأسئلة وإثارة النقاش وتقديم واجهة لهذه السينما في أبرز أعمالها وخلق تفاعل حسي مع هذه الأعمال التي لا بد لقيمتها أن تلفت نظر من يريد أن يطلع ومن هو معني بالسينما وبالإبداع الفني عموماً مهما كانت جنسيته» يقول القيمون على التظاهرة وهم في هذا المسعى نجحوا إلى حد كبير. وقدمت التظاهرة ستة أفلام وثائقية طويلة من اليمن وفلسطين ومصر والإماراتوفرنسا ومن أصل الأفلام الوثائقية الستة فإن خمسة منها أخرجتها نساء وبينها العمل المتفرد على الأرشيف الخاص بمدينة حيفا للمخرجة الفلسطينية ماريز غرغور التي عادت خلاله لتشكيل صورة مدينتها حيفا مرتكزة على ذاكرة فرنسيين عاشوا في المدينة منذ ثلاثينات القرن العشرينص. في حين تطرقت المخرجة من أصل تونسي هند مؤدب إلى ظاهرة الموسيقى الشبابية المعروفة بالكترو- شعبي (مهرجان) والشائعة في أحياء القاهرة الشعبية والتي شكلت تمرد الشباب من قبل الثورة حتى... والفيلم من إنتاج مصري في حين تعيش المخرجة الشابة في باريس. أما المخرجة اليمنية خديجة السلامي فواصلت من خلال «قتلها تذكرة دخول للجنة» عملها على حقوق المرأة في بلدها اليمن من خلال قضية الصحافية الكاتبة بشرى المقتري التي أصدر السلفيون بحقها فتوى بالقتل. كما واصلت الإماراتية نجوم الغانم في «حمامة» عملها على بورتريه نساء من وفي بلدها علماً أن هذا الفيلم ليس آخر عمل أنجزته المخرجة لكنه الفيلم الذي جعل اسمها يكبر في سماء الإخراج داخل الإمارات وخارجها. وسيفتتح شريط الغان الأخير حول الفنانة التشكيلية نجاة مكي عروض الأفلام الوثائقية في مهرجان القاهرة الذي يدخل الوثائقي إلى عروضه للمرة الأولى في تاريخه. وفي «أريج» اختارت المخرجة المصرية فيولا شفيق التوقف عند أربع حكايات من قبل وبعد الثورة فتجولت بين القاهرة والأقصر في فيلم مليء بالمعلومات والحكايات التي يبدو للوهلة الأولى ألا رابط بينها لكنها مثل أريج الثورة، عبقها يفوح في كل مكان. من دون سابق تصميم أو قصد فإن «مواسم السينما العربية» هذا العام طغى عليها العنصر النسائي ممثلاً بالحضور الكبير لأفلام المرأة المخرجة أو لناحية المواضيع التي قدمتها الأعمال وقد سجل في الفيلم الروائي القصير حضور أعمال نوعية لمخرجات شابات مثل «ازرقاق» للفلسطينية راما مرعي و»يد اللوح» للتونسية كوثر بن هنية و»حرمة» للسعودية عهد كامل و»برج المر» للبنانية لينا غيبة وهو فيلم تحريك. وقد أعجب شريط «منسيون» القصير للسوري إيهاب طربيه من الجولان المحتل وهو أول فيلم يصور هناك من قبل سينمائي سوري شاب إعجاب الجمهور والمنظمين الذين اختاروا صورة منه لتكون إحدى ملصقات المهرجان.