يبتعد المصريون كثيراً عن الاهتمام بملفات الزيارات الخارجية ومنصات اللقاءات العربية وساحات المؤتمرات الإقليمية. البعض ينأى بنفسه لأن «ما فيه مكفيه» حيث صعوبة الحياة اليومية وانشغال بالتفاصيل المحلية. والبعض الآخر عاهد نفسه ألا يتابع إلا ما كان على صلة وثيقة بنفسه وأبنائه ومحيط سكنه، لا سيما أن السعة الاستيعابية للأدمغة المصرية لم تعد تحتمل المزيد بعد خمس سنوات من «الهبد والرزع». لكن هذه المرة غالبية المصريين تتابع عن قرب زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى القاهرة بعد تأجيلها مرة. هذه المرة يتحدث الشارع عن زيارة العاهل السعودي بشغف واهتمام شديدين. ورغم أن الحديث يأتي بلغات مصرية مختلفة وتفسيرات شعبية عدة وتحليلات إعلامية وفضائية لا أول لها أو آخر، إلا أن كل ذلك لا يعني إلا اهتماماً بالغاً وترقباً كبيراً. فبين هاشتاق «الملك سلمان في بيته الثاني مصر» والذي وجد طريقه إلى قائمة الهاشتاقات الأكثر تداولاً، إلى لافتات الترحاب المنتشرة في أماكن عدة، إلى أحاديث البسطاء وتفسيراتهم المتأرجحة بين العمق الفطري الشديد والتشبيك السياسي الرهيب، تناسى المصريون مشكلاتهم الآنية وأزماتهم الدولارية وفواتيرهم اليومية موقتاً وانغمسوا في الزيارة الملكية. «الزيارة الملكية ستقطع شكوك المشككين بيقين العلاقة المتينة بين مصر والسعودية. ثلاثة أرباع عائلتي إما يعملون في المملكة أو عملوا لفترات هناك. مصر والسعودية علاقة تاريخية متينة ومصلحة إسلامية أصيلة وليذهب المشككون إلى الجحيم». ورغم أن الجحيم الذي أشار إليه معلم اللغة العربية السيد محمد التلباني يبقى غير واضح المعالم أو الملامح، إلا أن آخرين كانوا أكثر تحديداً وتوصيفاً. «فبينما العالم الإسلامي، وتحديداً العالم العربي، مستعر تحت وطأة آثار ما بعد ربيع التغيير وعوارض ما قبل خريف التقسيم، تأتي الزيارة لتعكس تقارباً بين الدولتين الأكبر في المنطقة العربية، واللتين سترسمان مصير المنطقة برمتها إما سلباً أو إيجاباً». وجهة النظر الاستراتيجية المفعمة بالمعلوماتية الغارقة في المفهومية لم تأت من خبير استراتيجي محنك أو ضيف فضائي معمق، بل أدلى بها سائق أجرة محنك. السائق الستيني المولع بمتابعة نشرات الأخبار وتحليلات الكبار وتعليلات الغرب والشرق عما يجرى في مصر والمنطقة أدلى بدلوه وهو على يقين من صحة ما يقول، مطلقاً آلة التنبيه العاكسة للفرحة والمعبرة عن «الكبسة» وهو يلوح للافتة ترحيب مصرية بالزيارة السعودية. «الكبسة» المشار إليها ليست الأكلة السعودية/ اليمنية الأشهر، بل هي مشاعر الغيظ والصدمة التي حتماً أصابت دولاً ما أو جهات بعينها أو جماعات دوناً عن غيرها. ويبدو أن المصريين تعبوا لفرط التلميح وكثرة التلميز على مدار السنوات القليلة الماضية، لذا فإن قليلين فقط هم من تكبدوا عناء تسمية جماعات والإشارة إلى كيانات أصيبت ب «الكبسة» نتيجة الزيارة المهمة. أهمية الزيارة مصرياً فسرها كل بطريقته. فمن تداول شعبي محموم لأخبار مطمئنة عن توقيع اتفاقات في مجال توريد الطاقة حيث انتشر خبر «إبرام اتفاقية تمويل لاحتياجات مصر البترولية لمدة خمس سنوات بقيمة 20 بليون دولار وبفائدة اثنين في المئة وفترة سماح للسداد لا تقل عن ثلاث سنوات» انتشار نار الفرحة في هشيم الرسائل النصية القصيرة المتداولة والتدوينات الفايسبوكية الحائزة «لايك» و «شير» والتغريدات التويترية المعاد تغريدها. الأكثر تخصصاً والأعمق دراية بأحوال الاقتصاد وشؤون الاستثمار يتداولون أخبار الشركات السعودية التي تم تأسيسها في مصر برأسمال أربعة بلايين دولار، ومجالات عملها المتنوعة بين مشروعات في محور قناة السويس، ومجالات الطاقة وتأهيل الكوادر الطبية، بالإضافة إلى المجالات الزراعية والحيوانية والاستيراد والتصدير. وتبقى محاولات تصدير الأزمات واستيراد الكوارث نصب أعين المصريين المحللين للزيارة، وهي المحاولات التي لخصها أحدهم في تغريدة كتب فيها «إلى كل المشككين والمخونين والمحاولين بث الفرقة ونشر الفتنة موتوا بغيظكم». وعلى الهامش تدور أحاديث جانبية وتكهنات هامشية عن محاولات لمصالحات إقليمية حيث اسم تركيا تردد في الأفق، والإشارة إلى قطر حدثت غير مرة، والحديث عن مواءمات وموازنات وتبادل مصالح وتعادل مكاسب لا يغيب عن جلسات المصريين هذه الساعات. الساعات الأخيرة شهدت متابعة عميقة للتغريدات التي تعبر عن توجهات أصحابها متخذة إياها دليلاً دامغاً إما على الوطنية أو الخيانة أو دق إسفين الفتنة. فبين تغريدات لشخصيات محسوبة على العمل الحقوقي تقلل من قيمة الزيارة وتنعت النظامين بنعوت القمع والظلم والقهر، وأخرى شعبية ترحب بها وتعتبرها إما تأكيداً أن مصالح البلدين، رغم اختلاف الأولويات حيناً وتراوح الرؤى حيناً، تظل واحدة في نهاية المطاف، أو تبجيل لبلدي القبلة والحرمين الشريفين والأزهر الشريف، أو كليهما، وثالثة رسمية مثل سفير السعودية لدى مصر السيد أحمد القطان مغرداً «إن المملكة العربية السعودية حكومة وشعباً تقف بجوار شقيقتها مصر في مواجهة كل ما يحاك ضدها». وبين ما يحاك من فتن وما يلوح في الأفق، تدور أحاديث على هامش الزيارة عن توقعات بنهايات تبدو قريبة لأزمات عدة، بدءاً باليمن مروراً بسورية وانتهاءً بمصر والسعودية نفسهما. وعلى الرغم من استمرار ضبابية الرؤية في شأن الدول ذات الصراعات المشتعلة، إلا أن الرأي العام المصري على يقين بأن الزيارة تصب في خانة وضع كلمة «النهاية» على عدد من الصراعات في المنطقة، وربما تلقي بظلال إيجابية على محاولات إشعال مشكلات داخلية وإيقاظ فتن هامشية، حيث الزيارة تحمل عناوين اقتصادية وأمنية وبالطبع تاريخية أخوية.