«مركل في وضعها الحالي تشبه عازف البيانو في تيتانيك، فهو كان يعي جيداً بأن السفينة ستغرق، ولكنه مع ذلك ظل يعزف ويعزف حتى اللحظة الأخيرة». بهذه الكلمات وصف السياسي البافاري بيتر رامزاور المستشارة الألمانية. نتائج الانتخابات التي أجريت في ثلاثة أقاليم فيديرالية في ألمانيا في الثالث من آذار (مارس) الماضي أظهرت بوضوح تراجع دعم الألمان للحزب الحاكم «الاتحاد المسيحي الديموقراطي» بزعامة أنغيلا مركل، وانصرافهم عن الحزب الثاني الأكبر في الائتلاف الحاكم «الاتحاد الاشتراكي الديموقراطي»، مقابل تقدم جدي للحزب القومي المتشدد «البديل من أجل ألمانيا». وعلى رغم صعوبة تعميم هذه النتائج على أمزجة الرأي العام على المستوى الفيديرالي، إلا أنها تعكس بما لا يقبل الشك اتجاهات الأمزجة في المجتمع الألماني وموازين القوى الجديدة في التشكيلة السياسية المرتقبة، فمواقع المستشارة والحزبين الأكبر في التحالف الحاكم تتآكل في شكل متشابك تحت ضغط السياسة التي تنتهجها المستشارة والغالبية الحاكمة في ما يخص اللاجئين. للمرة الأولى تثير انتخابات الأقاليم مثل هذا النقاش الساخن والاهتمام الكبير، وهذه الانتخابات تجرى كل خمس سنوات، فيما الانتخابات الفيديرالية تجرى كل أربع سنوات حيث يتم انتخاب البرلمان ومن ثم الحكومة. وقال رئيس معهد استطلاعات الرأي الاجتماعية هيرمان بينكريت» أن هذه الانتخابات ستغير ألمانيا». تحت عنوان» فشل مركل، وتنامي قوة اليمين القومي المتطرف في ألمانيا» تناولت جريدة «نيويورك تايمز» الانتخابات الألمانية في الأقاليم الثلاثة، ونقلت عن أستاذ العلوم السياسة في جامعة» يوهاينس غوتنبرغ» في «ماينتس» يورغان فالتر قوله: «إن تقدم حزب «البديل من أجل ألمانيا» يمثل ضربة في الصميم لسياسة المستشارة وترحيبها باللاجئين في ألمانيا». وتوقع رامزاور «أن يحرز هذا الحزب المتشدد في الانتخابات الفيديرالية التي ستجرى العام المقبل نسبة 10 في المئة، وربما أكثر، وسيبعث بعدد ليس قليلاً من النواب إلى البوندستاغ». وكشفت نتائج الانتخابات عن معارضة كبيرة وقوية لسياسة مركل في بلادها لدرجة أنها ساعدت قادة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على رفض خطتها لتقاسم اللاجئين، وسقتهم جرعات جرأة إضافية لإغلاق حدود دولهم وتشييد الجدران العازلة في تعارض مع مبادئ «شنغن» و»دبلن». ولاحظت جريدة «واشنطن بوست» أن «البديل من أجل ألمانيا» يجتذب شرائح مجتمعية لا تشارك عملياً في الانتخابات، ومعهم أيضاً أنصار ومؤيدين للاشتراكيين الديموقراطيين، وأعضاء في المسيحي الديموقراطي الحاكم وقعوا أسرى مشاعر خيبة أمل بالمستشارة مركل». خسارة المستشارة لبعض ناخبي حزبها، عدها المحللون والمراقبون أمراً متوقعاً على خلفية الاستياء الشعبي العام من فتح أبواب البلاد أمام مليون وأكثر من اللاجئين لا سيما بعد فضائح التحرش الجنسي في كولون ومدن ألمانية أخرى، وقالت جريدة «بيلد» أن «الحزبين اللذين ظلا يهيمنان على الحياة السياسة في ألمانيا «المسيحي الديموقراطي والاشتراكي الديموقراطي» منذ العام 1945 ينبغي عليهما الآن إعادة ترتيب صفوفهما وصياغة حلول خلاقة يتجاوب معها الناخبون بعد امتحان الانتخابات العسير». ويرى العديد من المحللين الألمان «أن مركل مطمئنة ولا تخشى من فقدان زعامتها لحزبها، أو خسارتها لمنصب المستشارة، إذ لا يوجد في الواقع السياسي الراهن أو وسط النخب السياسية الفاعلة، منافسون لها جديرون وبمقدورهم تهديد موقعها في الحزب والمستشارية، عدا عن أن إزاحتها كمستشارة عملية معقدة للغاية». تخرج المستشارة من أول اختبار انتخابي قاس بعد أزمة اللاجئين وهي مضرجة بجروح الانتقادات والاتهامات وظلم ذوي القربى، ولكن من دون أن تكون مقطعة الأوصال، فالنتائج لا تهدد زعامتها على رغم تراجع حزبها والأضرار الكبيرة التي ابتلعت حلفاءها في الائتلاف الحاكم «الاشتراكيون الديمقراطيون». ولكنها تمثل إهانة مباشرة لكرامتها وصمودها أمام عواصف الأزمات المتلاحقة التي هزت الاتحاد ودوله خلال السنوات الأخيرة. لا أحد يختلف حول حجم وطبيعة القلق الذي يعصف بفئات واسعة من المجتمع الألماني وتياراته السياسية التقليدية من صعود اليمين القومي المتشدد وخطابه وشعاراته المثيرة للانقسام والكراهية في المجتمع، وهو تقدم يبقى حتى هذه اللحظة في حدود لا تبعث على اليأس والتشاؤم أو الهلع من الآتي المجهول في حال كسب المزيد من التنامي والأصوات في الانتخابات الفيدرالية. الألمان بغالبيتهم ما زالوا متعلقين بالمستشارة ويدعمون شعارها (Wilkommenskulture) جاهدين لغلبة مخاوفهم من تسونامي اللاجئين، وتداعياته على منظومة قيمهم التي يعتقدون بأنها أضحت مهددة في الصميم. الانطباع الأهم الذي يمكن استخلاصه من الانتخابات هو تراكم معالم ألمانيا جديدة ليست محصنة كما كانت حتى الآن ضد فيروس الشعبوية الذي أصاب أميركا وبلدان أوروبية عدة. فألمانيا الآن تزخر وتعج بالاستقطابات السياسية في سياق وضع سياسي مستقر لحد الملل وفق المحلل في الشؤون الألمانية في إذاعة «دويتشه فيلله» ألكسندر أندرييف. وفي خضم الصراعات السياسية وتأجج المشاعر الاجتماعية، تلوح في الأفق مؤشرات تبلور ائتلاف حكومي بتوليفة أكثر تعقيداً في سياق قدرة أضعف لدى المراقبين على التكهن والتنبؤ بمآلات الأحداث، فالتحذير الذي وجهه الناخبون للمستشارة سيرغمها من دون شك على التفكير والتمعن في هواجسهم المشروعة، وبالتالي سيتحتم عليها النظر بجدية قصوى إلى تزايد احتمالات ارتدادات سياسية تنبئ بانقسامات حادة ليس فقط في المجتمع الألماني، وإنما أيضاً في صفوف الاتحاد الأوروبي بسبب أزمة اللاجئين المستفحلة. والقناعة السائدة في الأوساط السياسية والأكاديمية الأوروبية هي أن الاتفاق الذي عقد مع تركيا لوقف زحف الشعوب المهاجرة لن يحل الإشكالات القائمة، كما ولا يمكن للجدران العازلة والسفن الأطلسية العائمة في البحار التركية والإيطالية أن تصد كتلاً بشرية يائسة ضاقت بأفرادها السبل في بلدانهم التي أنهكتها الحروب الخارجية والأهلية، ونهشت الأنظمة الديكتاتورية لحم مجتمعاتها المنكوبة. الربح والخسارة والمفاجآت «الحزب يخسر، المستشارة تربح»، هكذا وصف المعلق في مجلة (دير شبيغل) يعقوب أوغشتاين مفارقة الانتخابات العجيبة. الاشتراكيون الديموقراطيون لم يخسروا فقط الأقاليم الثلاثة وحدها، بل معقلهم الحصين إقليم سكسونيا السفلى، وتراجعت مرتبتهم إلى الرابعة في لائحة الأحزاب المتنافسة. شعبية مركل وسط الناخبين ما زالت مستقرة وسط تراجع نفوذ ومواقع حزبها، وبحسب استنتاجات رئيس تحرير (Die zeit) برند أورليخ فأن «ثلث السكان صوتوا لمصلحة أحزاب تتبنى وتدعم السياسات الليبرالية التي تنتهجها المستشارة مركل حول اللاجئين، بل وأنهم حتى يطالبونها بأتباع سياسة أكثر ليبرالية». هذا الرأي يخالفه الكثير من المحللين الألمان والأوروبيين خارج ألمانيا الذين يقولون «أن النتائج المبهرة التي حققها حزب «البديل من أجل ألمانيا» تشكل ضربة لسياسات المستشارة حيال اللاجئين». وفي رأي مدير (WilfriedMaplens Center) رونالد فروي دينشتاين «أن وجهتي النظر المذكورتين تتناولان الأمور بسطحية متناهية». وقال: «ثمة معارضة قوية للمستشارة في المجتمع الألماني في إطار إدراك لحقيقة أنها ما زالت تحظى بدعم واسع في المجتمع، وبالتالي فهي بالتأكيد ليست مهددة وفق ما هو الاعتقاد السائد في الخارج». وذكرت جريدة (فرانكفورتر الجماينه زونتاجس تسايتونج) أن «الاعتراض على سلطة مركل بسبب نتائج الانتخابات السيئة لحزبها احتمال ضعيف، غير أنه ليس مستبعداً». وسجلت استطلاعات الرأي ارتفاعاً في نسبة شعبية مركل إلى حد 50 في المئة بحسب استطلاع أجراه «معهد فورسا»، وهي النسبة الأعلى منذ أوائل العام الحالي». والغريب أن المستشارة التي تواجه تمرداً داخلياً تجهد لكبحه والتحكم بنسيج خيوطه في وقت تحظى فيه على غير المتوقع بدعم من أحزاب أخرى ليست في الائتلاف الحاكم. ويتزعم هذا التمرد رئيس حكومة بافاريا، حليفها في الائتلاف الحاكم هورست زيهوفر، الذي لا يخفي تذمره من سياساتها ويطالب بإلحاح بوضع سقف لقبول اللاجئين»، ويشن انتقادات وهجوماً لاذعاً للمستشارة ويقول: «إن أفعال وقرارات مركل ليست ساذجة فحسب، وإنما أيضاً غير قانونية». ويكرر زيهوفر تهديداته للمستشارة برفع دعوى ضدها لدى المحكمة الدستورية. ولم يكتف بذلك، إذ يواصل يومياً انتقاداته عبر وسائل الإعلام ويتهمها باتباع سياسة عبدت الطريق أمام «البديل من أجل ألمانيا» ليصبح تهديداً وجودياً وفعلياً للاتحاد المسيحي الديموقراطي ولحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا». ويرجح المراقبون أن يتجدد النقاش داخل حزبها حول الثمن الباهظ الذي دفعه مقابل سياستها الخاصة باللاجئين». ورأى المحلل في «فورين بوليسي» جان ويرنر ميولر «إن مركل سمحت بتدفق اللاجئين إلى أوروبا من دون التفكير في أبعاد قراراتها على المسيحيين في القارة». وأضاف أنه «على عكس ما يتردد دوماً في وسائل الإعلام الأميركية، فإن الدين لا يزال يعتبر مؤثراً في أوروبا وفي السياسة الأوروبية بشكل عام»، ويتفق محللون آخرون مع ميولر في «أن سياساتها تجاه اللاجئين أثرت على أيديولوجية الديموقراطية المسيحية التي تعد إحدى الأيديولوجيات الرائدة في حكم أوروبا في حقبة ما بعد الحرب». نفوذ المستشارة وأفولها قوة ألمانيا ونفوذها المؤثر في مستقبل أوروبا، ليس متأتياً من فراغ كما يشدد المحللون، فهي الدولة الأقوى اقتصادياً، في القارة، وهي الفيديرالية الأكبر مساحة والأكثر كثافة سكانية، وتعارض الباحثة في الشؤون الألمانية فلورين أدير هذه الفكرة لأنها لا تحمل في طياتها ما يكفي من المقومات بحيث يمكن القول أن ألمانيا تمثل فعلاً أهمية قصوى للاتحاد الأوروبي الذي كما تشدد «ينبغي عليه أن يستغل إمكانات وقدرات دوله الأعضاء الأخرى» إذ ليس من السليم والمنطقي والمقبول عملياً أن تتحكم حكومة ألمانيا وحدها في مصير القارة أجمع». تتصدى المستشارة وحدها لعواصف وسيول الانتقادات الآتية من خصومها وحلفائها في آن واحد ضد سياساتها، فالأحزاب اليمينية الداعمة لسياساتها في اليونان والبرتغال وإسبانيا وفنلندا تلقت هزائم قاسية في الانتخابات العامة التي فازت بها أحزاب وتيارات يسارية، معارضة لقبول اللاجئين ورافضة لقراراتها الخاصة في التعاطي مع الأزمات على المستويات الوطنية والأوروبية. هذا فيما تواصل القوى الشعبوية واليمينية المتشددة المناهضة للمشروع الأوروبي كسب المزيد من الأنصار لطروحاتها التقسيمية وشعاراتها ضد ما يسمونه البيروقراطية المتحكمة بالاتحاد الأوروبي. مركل تلتفت وسط زحام المشاغل والانفعالات إلى الشركاء والحلفاء الذين ما زالوا قريبين منها ويدعمون سياساتها فتجدهم يغادرون الواحد بعد الآخر سفينتها متنكرين لزعامتها ورافضين لسياساتها علناً قبل أن يدركهم طوفان الخسارة والهزيمة في الانتخابات الفيديرالية، هذا فيما لا يخفي قادة اليمين المتشدد المعادين للمهاجرين والأجانب وفي شكل خاص المسلمين والأفارقة جهدهم لتغيير التركيبة السياسية في البلاد. ولا تختلف مواقف زعماء المجر وبولندا وسلوفاكيا والنمسا عن هذه الأحزاب الشعبوية فهم يصرحون من دون حياء بنفورهم من سياستها ويرفضون الاستجابة لدعواتها بإبقاء الحدود مفتوحة أمام اللاجئين كما كانت حتى قبل أشهر، ويقاومون بشراسة إصرارها على قبول حصصهم من اللاجئين وفق خطة توزيع هؤلاء في إطار ما يسمى التضامن الأوروبي في الأزمات التي وضعها رئيس المفوضية يونكر بالاشتراك مع مركل. لا مؤشرات في الأجواء السياسية الأوروبية مع كل التمردات الحزبية الداخلية ضد مركل على خلفية المعطيات الجديدة المتبلورة بعد الانتخابات، وعلى رغم الأزمات الساخنة في الدول الأعضاء التي التهمت الفضاء العام مع تفجيرات الإرهاب في باريس وبروكسيل على وجود منافس لها وسط النخبة السياسية الحالية على المستوى الأوروبي، شخصية كاريزمية وجاذبة تتمتع بصفات المستشارة وميزاتها بمقدورها أن تطيح بنفوذ المستشارة، فالرئيس الفرنسي هولاند منشغل حتى العظم بفرنسا وإفرازات الإرهاب الذي ينخر المجتمع والنظام من الداخل، فيما لا يبدو أن لرئيس الحكومة البريطانية كاميرون أية طموحات قيادية، أما راخوى فلن يستطيع تخطي الأسلاك الشائكة التي نصبها خصومه الشعبويون من «بوديموس» وتلوح في الأفق غيوم توحي بخسارته لمنصبه كرئيس وزراء إسبانيا، هذا بينما ما زال رئيس حكومة إيطاليا الشاب ماتيو رينزي يتعثر في طريقه للعثور والإمساك بالمفصل الذي يعينه على ارتقاء سلم المراتب العليا للاتحاد الأوروبي. تساءلت الطبعة الألمانية من «هافينغتون بوست» عن السبب الذي يجعل مركل تتمسك بسياستها حيال اللاجئين على رغم كل الانتقادات والرفض الأوروبي الرسمي والشعبي؟. ووفقاً لما نقلته عن المحلل النفسي هانس – يوافيم ماتس فأن «مركل لا تختلف عن غيرها من الزعماء الأقوياء في العالم تعاني كما يبدو من تقييم مبالغ فيه لنفسها ولشعبيتها وقدراتها لدرجة اعتقادها بأنها محصنة ضد كل أشكال الانتقادات». ولا يستبعد ماتس الذي يتابع منذ سنوات مراحل تطور وتقدم المستشارة ونجاحاتها السياسية والقيادية أن يصيبها انهيار عصبي إذا ما واصلت التمسك بعناد بسياستها التي ترفضها غالبية الألمان، وهي برأيه «سياسة لا عقلانية». نتائج استطلاع أخير للرأي أجراه مركز (CINSA) لحساب مجلة «فوكس» تتطابق مع وجهة نظر ماتس، فلقد أعرب 40 في المئة من الألمان عن رغبتهم في استقالة مركل بسبب سياستها إزاء اللاجئين. وبحسب مجلة «تايم» فإن 80 في المئة من الألمان يعتقدون بأن الحكومة الفيديرالية فشلت في التعاطي مع أزمة اللاجئين».