«الصحافيون أحرار فقط عندما يوجه أحدهم سؤالاً محرجاً إلى مسؤول في الدولة، ويتمكن في المساء بعد انتهاء عمله من العودة إلى منزله سالماً». هذه الكلمات هي لرئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو قالها حين رد على سؤال وجهه صحافي من جريدة «زمان» عن حرية الصحافة في أيار (مايو) 2014. وقال: «الصحافيون في تركيا أكثر حرية من أقرانهم العاملين في دول تدعي أن حرية الصحافة والتعبير مكفولة ومضمونة بحكم القوانين». «الصحافة التركية تعيش أحد أحلك الأيام في تاريخها». هذا كان آخر ما كتبته صحيفة «زمان» التركية قبل أن تهاجمها قوات الشرطة وتفرض الوصاية عليها وتغير سياسة إدارة التحرير المعارضة للحكم، وذلك بموجب قرار قضائي صدر عن محكمة الجزاء السادسة في إسطنبول يتهمها بالعمل لمصلحة ما تسميه الحكومة «الكيان الموازي» الذي أقامه كما تدعي الداعية الإسلامي الذي يعيش في منفاه في الولاياتالمتحدة عبد الله غولين. وصحيفة «زمان» هي أحد إصدارات مؤسسة إعلامية تركية ضخمة إلى جانب «توديز زمان» بالإنكليزية ووكالة» جيهان» للأنباء، تعود ملكيتها لغولين، وتوزع يومياً نحو 650 ألف نسخة. في اليوم التالي لفرض الوصاية عليها صدرت «زمان» بنسختين مختلفتين تماماً، الأولى بعناوين وأخبار مؤيدة للحكومة، وصورة ضخمة للرئيس رجب طيب أردوغان توسطت صفحتها الأولى، والثانية تحت اسم «نظرة إلى الغد»، ولكن بالنهج القديم المعارض لأردوغان وحكومته. باشرت هيئة الوصاية عملها بطرد رئيس التحرير عبد الحميد بليجي مع هيئة التحرير بأكملها وتعيين بدائل من الخارج لإدارة التحرير. وكتب الصحافي قدري غورسيل مقالاً في جريدة «حرييت» المعارضة: «اليوم وبعد 30 عاماً من العمل الصحافي أشاهد اغتيال هذه المهنة. هذه جريمة في حق الديموقراطية». ورأت جريدة «لوموند» الفرنسية أن «أردوغان يستغل محاولات الاتحاد الأوروبي للتقرب منه من أجل إيجاد حل لأزمة اللاجئين كي يواصل قمع حرية التعبير في بلاده». وقبل أيام من وضع اليد على زمان كانت السلطات التركية أفرجت عن رئيس تحرير جريدة « جمهورييت» جان دوندار، ومدير مكتبها في أنقرة أردم غول، بعد 92 يوماً من احتجازهما احتياطياً تنفيذاً لقرار المحكمة الدستورية التي وجهت إليهما تهمة التجسس وفضح أسرار الدولة والسعي إلى قلب النظام، بعد نشرهما مقالاً وشريطاً تم تصويره على الحدود السورية في كانون الثاني (يناير) 2014، يظهر اعتراض قوات الأمن التركية شاحنات عائدة إلى جهاز الاستخبارات التركي تنقل أسلحة لمقاتلين إسلاميين في سورية. وتلاحق حكومة العدالة والتنمية مراسل صحيفة «حرييت» في العاصمة الأميركية واشنطن تولجا تانيس الذي أقام عليه أردوغان دعوى تتهمه بالتشهير والإساءة إلى سمعة الرئيس التركي. وقال محامي الادعاء أن التشهير ورد في مقال للكاتب حمل عنوان» الرئيس الأميركي والرجل الأنيق» في إشارة إلى الرئيسين الأميركي والتركي. صحافة «الحوض المالي» تشهد تركيا حربا إعلامية شرسة بين مجموعة «دوغان» أكبر مجموعة إعلامية في تركيا والصحف المقربة من الرئيس الذي يسيطر عليها بنفسه وتعرف لدى الرأي العام التركي ب»إعلام الحوض المالي» لأن مموليها رجال أعمال موالون للحكومة. وقال آهتير كوتادجو المسؤول عن الاتصال المؤسسي في مجموعة «دوغان» أن «مالكي مجموعتي «كالينجو-Kalyoncu» و»صباح-Sabah» يعدان دمية للحكومة». ولفت إلى أن «تركيا كلها تعرف أن الإدارة الحقيقية والكلمة العليا في هاتين المؤسستين هي لسرهات البيراق» (الشقيق الأكبر لبرات البيراق صهر أردوغان). ويسيطر أردوغان على جريدة «صباح» وقناة «TV» إحدى أكبر القنوات في تركيا، كما يستخدم محطات NTV وTVSTAR وHabartrrk وShow TV وقناة TRT الحكومية كوسائل إعلامية حزبية. تنقسم وسائل الإعلام الموالية إلى 3 فئات، فئة برأس مال الحزب، وفئة أجبرت على الولاء، وفئة ثالثة هي الإعلام المكمم. ويشير الخبير الإعلامي ومدير شبكة «روتا» للأخبار طارق أونال إلى «أن الحزب الحاكم أنشأ إعلاماً بأموال من الحزب مباشرة ورجال أعمال مقربون، ليكون لسان حاله ومن بينها «تلفزيون 24» وفضائية «آ» للأخبار وتلفزيون «360» وقناة «ألف» وتلفزيون «آ تي في»، ومالكوها لهم مصالح مع الحكومة. أما الإعلام المكمم فأجبر على الخضوع ليبقى على قيد الحياة، وأكبر مثال على ذلك مجموعة «دوغش» للإعلام التي تمتلك قناة «أن تي في» الإخبارية ومجموعة «دوغان» التي تملك عشرات الفضائيات ومن بينها «سي أن أن تورك». في السياق نفسه، تفيد بيانات لهيئات إعلامية مستقلة بأن الحكومة التركية كوّنت جيشاً إلكترونياً قوامه 10 آلاف شخص بأموال الدولة لتولي مهمة شن حملات وهجمات إعلامية عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت ضد أحزاب المعارضة بهدف إسكاتها وتقويض دورها. تطهير ذاتي أسفرت ضغوط أردوغان عن قيام المؤسسات الإعلامية بعملية «تنظيف ذاتي» نتج منها خروج نحو ألف صحافي من مؤسساتهم الإعلامية. وكشف تقرير برلماني تركي مستقل أن 981 صحافياً فصلوا من أعمالهم أوائل العام 2014. واعتبر رئيس منتدى «ميديا لوغ» الإعلامي أن التقرير يدل على الوضع المزري الذي تعيشه الصحافة التركية ومستوى الديمقراطية في البلاد. والمؤكد أن الإعلام التركي يعيش حالة من الاستقطاب الشديد بين وسائل إعلام المعارضة والموالاة، فيما تكاد تختفي وسائل الإعلام المحايدة. ويصنف خبراء الميديا تركيا بكونها «أكبر سجن للصحافيين في العالم». وكانت جمعية الصحافيين الأتراك كشفت العام الماضي طرد 339 صحافياً من أعمالهم خلال عام واحد، وتحدثت في بيان أصدرته عن تزايد الضغوط التي تمارسها الدولة على الإعلام، وقالت: «إن البطالة والتمييز أصبحا قدراً للصحافة التركية». ونقلت جريدة «بوجون» عن بيان الجمعية الذي صدر في حزيران (يونيو) من العام الماضي بعنوان «الصحافة من أجل الحرية»، أن «ممارسة أعمال الضغط والإقصاء ضد الصحافيين لا تزال مستمرة»، ورصدت حالات ترحيل لصحافيين أجانب انتقدوا الحكومة كما في حالة الصحافي الأذري ماهر زينالوف الذي صرح من باكو «أن جهة مرتبطة برئيس الوزراء تلقت معلومة سرية مفادها أنني أهنت مسؤولين كباراً في تركيا، ولهذا تقرر سحب بطاقة اعتمادي لدى وزارة الخارجية». في العام 2014 وجه رئيس جمعية حماية الصحافيين، ومقرها نيويورك، جول سايمون في مقال نشرته جريدة «الغارديان» البريطانية انتقادات لاذعة لمصادرة الحريات الصحافية في تركيا وقال: «إذا كان أردوغان يتصرف علناً بهذا الشكل مع مجموعة من المراسلين الدوليين فمن يعلم ماذا يفعل في دائرة خاصة؟».