بات المشهد في سيناء أكثر تعقيداً، وأصبحت الضبابية هي العنوان الأبرز بعد مقتل العشرات من أفراد وضباط الجيش المصري في 29 كانون الثاني (يناير) الماضي، في هجوم «نوعي» استهدف مقرات عسكرية وأمنية في وسط مدينة العريش، وهو الحادث الذي أعلنت جماعة «ولاية سيناء»، التابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية» مسؤوليتها عنه. والأرجح أن هذا الحادث أثار قلق النظام في مصر بالنظر إلى قوته وخسائره الفادحة، الأمر الذي دفع المجلس الأعلى للقوات المسلحة للاجتماع صباح 31 كانون الثاني (يناير) الماضي بحضور رئيس الدولة، فضلاً عن تدشين قيادة عسكرية موحدة شرق القناة لمواجهة الإرهاب المتنامي في سيناء. ودخلت سيناء في سلسلة طويلة من العنف واتسعت رقعة المواجهات بين الجماعات الراديكالية والدولة، لاسيما بعد إعلان جماعة أنصار بيت المقدس التي تنشط في سيناء وعلى طول الحدود مع إسرائيل في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، في تسجيل صوتي، مبايعتها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وزعيمه أبو بكر البغدادي أميراً وخليفة للمسلمين. ولم يكن حادث الهجوم على المقرات الأمنية في العريش الأول من نوعه، إذ سبقته هجمات متقطعة على مدار الأشهر الماضية، آخرها الهجوم الذي استهدف نقطة كرم القواديس العسكرية في 24 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأسفر عن سقوط 27 قتيلاً وإصابة 33 آخرين، ما استدعى إعلان حال الطوارئ في مدن شمال سيناء لثلاثة أشهر، وفرض حظر التجوال، في مؤشر إلى تطوير العمليات العسكرية لملاحقة المسلحين في شبه الجزيرة. وفي آب (أغسطس) 2013 قتل 25 شرطياً بعد نحو شهر من إطاحة الجيش حكم الرئيس محمد مرسي في تموز (يوليو) 2013. وفي آب 2012، قتل 16 جندياً من قوات حرس الحدود في هجوم ضد نقطة أمنية في رفح، وتلا ذلك اختطاف سبعة جنود مصريين في سيناء في أيار (مايو) 2013. وبدأت حوادث الاعتداء على المعسكرات الأمنية وخطف الجنود في سيناء منذ العام 2011. غير أن ما حدث في الأيام الفائتة يبدو مختلفاً، بسبب ضخامة الخسائر، والكشف عن حدود نجاحات التدخل العسكري في استئصال جماعات العنف في سيناء، إذ كشف الحادث عن قصور معلوماتي من جهة، ومن جهة أخرى فجوة لوجستية وتدريبية بشأن التعامل مع تكتيكات أبناء العنف وعملياتهم الإرهابية. وفي وقت ألمح الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى دعم خارجي لأبناء العنف في سيناء، أو تعاطف البعض معهم، في إشارة ضمنية إلى استقبال الخارجية الأميركية وفد «جماعة الإخوان المسلمين» التي تصنفها مصر «إرهابية»، أدرجت محكمة القاهرة للأمور المستعجلة «كتائب عز الدين القسام»، الجناح العسكري ل «حماس» منظمة إرهابية. والأرجح أن السعي إلى تفسير «خارجي» للهجوم الإرهابي في العريش، على وجاهته في ظل تنامي الجماعات الراديكالية في سيناء والحديث عن علاقات لها مع «داعش»، فضلاً عن حال التوتر الذي يعتري علاقة القاهرة مع «حماس» وبعض القوى الإقليمية، إلا أن اعتماد هذا المسلك وحده يبدو انفصالاً عن الواقع، فالمعضلة الأمنية في سيناء لا تمكن مواجهتها في معزل من السياسات اللازمة لتغيير بيئة اجتماعية يسودها الشعور بالقهر والإحباط، فالدولة لم تحرك ساكناً تجاه المشاكل المتراكمة في سيناء منذ تحريرها في العام 1982. وتمثل سيناء حوالى 6.25 في المئة من مساحة مصر تقريباً، وتعتبر بوابتها الشرقية وحلقة الوصل بين المشرق والمغرب العربي، إضافة إلى أنها تمثل المورد الأول لثروة مصر المعدنية. وبلغ عدد سكان سيناء وفقاً لتعداد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في العام 2012 نحو 554 ألف نسمة، يعيش 70 في المئة منهم في شمال سيناء مقابل 30 في المئة في الجنوب، وبذلك يصل عدد سكانها إلى حوالى 0.5 في المئة من سكان مصر. وينقسم سكان سيناء إلى ثلاث مجموعات. أولاها البدو، وهم السكان الأصليون، ويتوزعون على 15 قبيلة، تتركز في المناطق الساحلية شمالاً وفي المناطق الواقعة في الشرق من القناة وخليج السويس، ويعمل أبناؤها في الزراعة والصيد والتجارة والإرشاد السياحي، وثانيتها الفلسطينيون ويمثلون المجموعة الثانية من السكان، وهم ثلث سكان العريش، وحتى سنة كانوا يعاملون كمصريين في التعليم والصحة والتوظيف، ولكن بعد كامب ديفيد صنفوا كأجانب. وثالثتها الذين وفدوا إلى سيناء بعد الانسحاب الإسرائيلي في عام 1982. وأغلب هؤلاء من محافظات الدلتا، خصوصاً محافظة المنوفية. وعلى رغم أنه كان من المنتظر أن توضع سيناء في صدارة المشهد بعد «الربيع المصري»، إلا أن الجهود ما زالت أولية ومحدودة. ومثّل غياب خطط التنمية وضعف المداخيل المالية للمواطنين عنصراً مهماً في تغذية الاحتقانات الاجتماعية، وأفرز بيئة خصبة لاحتضان العنف وأبنائه ممن يُطلق عليهم الجهاديون، في ظل ضعف قدرات قوات الأمن المحددة سلفاً من ناحية، وبناء روابط فكرية ومصلحية مع «القاعدة» والجيوب التابعة لها منذ منتصف التسعينات من ناحية أخرى، وظهرت بعض ملامحها في الهجمات المسلحة ضد بعض المواقع السياحية في سيناء، والتي تواترت بصفة خاصة في الفترة بين عامي 2004 و2006. وتتراوح أعداد المنتمين للتنظيمات الجهادية في سيناء بين 2500 و3000 عضو، وتتكون معظم الجماعات من خلايا صغيرة محدودة العدد، ولا تميل في معظمها إلى الاندماج في كيانات أكبر وأكثر تنظيماً. وتموج سيناء بعدد من التيارات الدينية تتباين في اتجاهاتها الفكرية وتوجهاتها العقائدية، منها الدعوة السلفية وهي أقرب إلى النموذج الدعوي، والجماعات الجهادية التي ترفع راية الجهاد في وجه إسرائيل فضلاً عن التكفيريين الذين يعتمدون مبدأ الجهاد في محاربة الدولة باعتبارها كافرة، وتتركز هذه الجماعات في رفح والشيخ زويد ومنطقة الوسط. ويوجد أيضاً بعض الخلايا النائمة والمجموعات الصغيرة غير المحددة الفكر بشكل واضح، إذ تنتهج خليطاً من الأفكار السلفية والجهادية والتكفيرية، وقطاع معتبر منها لا يعمل بشكل تنظيمي. سيناريوات سلسلة طويلة من الإجراءات لمواجهة العنف في سيناء، أولها إقامة الجدار الفولاذي أو الجدار العازل على طول حدودها مع قطاع غزة على طول 9 كيلومترات ويتراوح عمقه في الأرض ما بين 20-30 متراً. وشيد الجدار من الحديد الصلب بحيث يصعب اختراقه أو صهره بوسائل مختلفة، وجاءت الخطوة في سياق جهود منع حفر الأنفاق التي تستخدم لتمرير البضائع والأسلحة إلى قطاع غزة. وجوار هذه الخطوة قامت دوريات أمنية بالتعاون مع قوات حفظ السلام في سيناء بجولات في المناطق الحدودية مع القطاع ناهيك عن تشديد الرقابة على الحواجز العسكرية الموزعة في سيناء. غير أن الخطوة الأهم كانت في تنفيذ العملية «نسر» التي بدأت في آب (أغسطس) 2011، وهي أكبر عملية عسكرية في سيناء منذ حرب عام 1973 ضد المسلحين بهدف وقف تدهور الأوضاع الأمنية وتعزيز قوة الردع للدولة. وشملت حدود العملية مناطق بئر العبد والعريش والشيخ زويد ورفح ناهيك عن جبال سيناء التي تتسم بالوعورة وبخاصة جبل الحلال الحصن المنيع والملاذ الأمن للتيارات الراديكالية. ودخلت القوات المصرية للمرة الأولى إلى المناطق ب و ج جنباً إلى جنب وثبتت نقاطاً ودوريات إضافية في العمق على محاور التحرك كافة في سيناء، وكذلك هدمت عدداً كبيراً من الأنفاق التي تصل بين سيناء وقطاع غزة الذي تحول إلى مفرخة للعناصر الراديكالية. والمتابع للتطورات السياسية والأمنية وللحركة الميدانية في سيناء في الفترة الماضية، خصوصاً على جانبي الحدود مع إسرائيل وغزة يدرك أن هناك شيئاً يتحرك ويكبر مستنداً إلى الانفلات الأمني الذي نشأ بسبب غياب الأمن وعودة الجماعات المتطرفة، وكذلك ظاهرة الأنفاق وما ترتب عليها من تداعيات سلبية. غير أن هذه الإجراءات لم تكن كافية لقضم الجماعات الجهادية في سيناء، وهو الأمر الذي دفع المؤسسة العسكرية إلى اتخاذ إجراءات إضافية في سيناء أبرزها إقامة منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي مع قطاع غزة يصل طولها إلى 13 كيلومتراً، وتشمل عمليات تطهير واسعة للأنفاق على الحدود بين رفح المصرية وقطاع غزة، على أن تقام بعمق يتراوح بين 500 متر. غير أن الجيش المصري بدأ في مطلع كانون الثاني (يناير) الماضي في توسيع رقعة المناطق العازلة لتصل إلى أكثر من ألف متر، وفي هذا السياق بدأت الحكومة ما سمته خطة «إعادة توزيع ديموغرافي» للسكان المقيمين على طول خط الحدود في رفح مع قطاع غزة، وبالفعل تم إزالة نحو 1220 منزلاً ونقل 2044 عائلة حتى الآن. والأرجح أن هذا السيناريو تسبب بسخط كبير من بعض العائلات السيناوية، بعد إزالة كتل سكنية كبيرة في مناطق صلاح الدين والبراهمة وحي الجبور وغيرها من الأحياء الحدودية المطلة مباشرة على قطاع غزة. على صعيد ذي شأن، ثمة تفكير في حفر ممر مائي بطول 10 كم على طول الحدود مع غزة للحيلولة دون حفر الأنفاق، إذ إن الممر المائي من شأنه أن يجعل باطن الأرض رخواً، ومن ثم صعوبة بناء أنفاق. والأرجح أن سيناريوات التعامل مع العنف في سيناء لم تقتصر على ما سبق، فثمة طرح بشأن استكمال الجدار العازل «الفولاذي» الذي بدأ بناؤه في العام 2009 على طول الشريط الحدودي مع غزة بهدف حماية الأمن القومي ومنع التهريب عبر الأنفاق، لكن المشروع لم يتم بسبب الفشل في إجلاء السكان من جهة والاعتراضات التي وجهتها فلسطين للقاهرة من جهة أخرى، حيث اتهمت الفصائل الفلسطينية نظام مبارك بالتواطؤ مع الاحتلال لتشديد الحصار على قطاع غزة. ووراء ذلك ثمة سيناريو رابع يرتبط بتمديد حالة الطوارئ التي أعلنها رئيس الدولة في شمال سيناء مع استمرار حظر التجول ليلا في المحافظة. لكن هذه السيناريوات الأمنية على أهميتها أو وجاهتها لدى البعض تظل نتائجها قاصرة عن تحقيق الاستقرار في سيناء ما لم تأخذ في الاعتبار الحلول السياسية والمجتمعية، إذ إن ثمة حاجة ملحة لإطلاق مشروع قومي تنموي في سيناء يتيح فرص عمل جادة غير موسمية للأهالي، خصوصا أن سيناء تعرضت للإهمال الشديد من الحكومات المتعاقبة، ناهيك عن أن التنمية السريعة المتمثلة في مجال السياحة جاءت على حساب السكان بالجنوب. وفي جانب آخر لا توجد تنمية حقيقية تذكر في شمال سيناء، ورغم إعلان الدولة عن إنشاء ترعة السلام لتحويل جزء من مياه النيل إلى سيناء للتوسع في الاستثمار الزراعي، فإن المشروع لم يستكمل ولم يحقق أهدافه، رغم إنفاق نحو 21 بليون جنيه على بنيته التحتية. لذلك تبقى التنمية وإعادة صوغ العلاقة بين الدولة وبوابتها الشرقية هي الخيار الأقرب لمواجهة أبناء العنف، فاعتماد القوة وحده لا يكفي، ولم يحقق المرجو منه، بل إن تداعياته كانت سيئة في بعض الأحيان، فعلى سبيل المثال أصبح التوتر العنوان الأبرز في العلاقة بين الدولة وقطاع معتبر من السكان عقب إزالة المنازل على الحدود، خصوصاً أن التعويضات عند حدها الأدنى، ولم تعوض السكان خسارتهم بترك منازلهم وأراضيهم. في المقابل، فإن التنظيمات الظلامية تبدو أكثر فعالية وقدرة على الحشد والتجنيد في البيئات الهشة والفقيرة، لأجل ذلك ينبغي أن تسعى الدولة جاهدة للقفز على تمدد منسوب الفقر في سيناء وتسريع وتيرة معدلات النمو في أوساط أبناء سيناء. * كاتب مصري