تتسم علاقة الشاعر العربي الحديث بالأنساق المعرفية والجمالية والنقدية للنصّ الغربي الحديث بحركتين متعارضتين: حركةُ «مدّ» ترى في المنجز الأجنبي مثالاً مطلقاً يجب استلهامه والدوران في فلكه، وحركةُ «جزر» تقف أمام هذا الوافد وقفةً متزمتة، بحيث تقوم غالباً برفضه، والقفز من فوقه، تحت شعار الوفاء للثقافة القومية «المعصومة». بين هاتين الحركتين يقف الشاعر المعاصر موزّعاً بين رغبة طاغية للانفتاح على تجربة الآخر وتمثّلها، وبين عاطفة نوستالجية متأصّلة تدفعه للاحتماء بالذات وصونها، تمجيداً لتراث الأسلاف وخطابهم «المقدّس». وقد انعكست هاتان الحركتان على المنجز الشعري الراهن، في شكل واضح، وباتت تسم بطابعها مختلف تياراته. فثمة قصيدة تفتح نوافذها للمؤّثر الغربي، وتأتي مثقلة بمجاز برّاني زخرفي يُغيّبُ حرارةَ التجربة الدّاخلية للشاعر، ويصادر، بالتالي، وعيه الشعري الأصيل. هذه القصيدة ترتدي غالباً أقنعة متعددة، فهي تارةً تقدّم نفسها كفسحة حرّة للعب اللفظي، يحركها هاجس التجريب الملفّق، الذي يقود النصّ والقارئ معاً إلى طريق مسدود. وتارةً تكون ضرباً من الإطناب اللغوي الرنّان، تحكمه رغبة طاغية في اللهاث وراء بلاغة طائشة، مسمّرة إلى نوم سريري، يتحوّل على أثرها النصّ إلى طلسمية قاتمة وملغزة. وهذا مردّه الوهم الذي أفرزته نظريات ما بعد الحداثة، من تفكيكية وبنيوية وسواهما، عن موت المعنى، الذي حتّم على الشاعر الحديث الهروب من الدلالة، بكل إرهاصاتها التاريخية والثقافية والجمالية. وهذا بالتأكيد فهم خاطئ لتجربة الحداثة ولأبسط مرتكزاتها المعرفية والأدبية والفلسفية. فأنّ نقول مثلاً إنّ لكلّ نص مستويات متعددة من الفهم، وهو قابلٌ للقراءة بطرق وأساليب مختلفة، شيء يختلف كثيراً عن رغبتنا بنسف المعنى من جذوره، والهروب إلى لعب هذياني فجّ. فالكاتب المبدع يجب أن يوفّق بين طرفي المعادلة، ويقدّم نصّاً غنياً بالدلالات، يحيل إلى مستويات مختلفة من الفهم والتأويل، بحيث تكون اللّغة أداةً مطواعة ومرنة، تخدم غايات النصّ ومقترحاته الجمالية. أمّا القصيدة التي تقرّر منذ البداية إقفال نوافذها في وجه الثقافة الوافدة وتتمترس حول معايير تراثية «أزلية»، فهذه ترتكب معصيةً من نوعٍ آخر. فالمشكلة لا تكمن بالتأكيد في النص الآخر الغربي، ونماذجه التعبيرية الخاصّة به، بل في طريقة مقاربة المبدع العربي له، وفهمه لبناه ومواضيعه وأساليبه. فالبديل لا يكون في الذهاب إلى الضفّة الأخرى، التراثية، والتمركز حول الذات الشعرية الكلاسيكية، واعتبار القصيدة الموزونة، مثلاً، بكل أشكالها وتفرّعاتها، ملاذاً آمناً، مقدّساً، يجعلنا ننبذ كلّ نص شعري مغاير. لقد شهد النصف الثاني من هذا القرن العشرين رحيل كلاسيكيين كبار من أمثال بدوي الجبل، والجواهري وأبو ريشة، ونديم محمد، وفقدت القصيدة العمودية، برحيلهم، ليونة البيان وشفافيته، وجزالة الإيقاع وأثيريته، وكونية الفكرة ورحابتها. هذا اليتم الكلاسيكي توّجهُ، من دون شك، رحيلُ الشاعر محمود درويش، الذي تمثّل قصيدته نقطة التقاء نادرة بين متن التراث ونداء الحداثة، لم يسبقه إليها سوى السياب، الذي يقول فيه أدونيس في حواره الأخير مع الشاعر عبده وازن، إنه كان «داخل اللّغة الشعرية العربية الكلاسيكية وخارجها، في آن،... كأنه من التراث، كالموجة العالية من البحر». هذا التوازن الفريد بيد الداخل والخارج، بين التراث والحداثة، ترك القصيدة الكلاسيكية يتيمةً حقّاً، اليوم، تكتبها البحورُ الستّة عشر، بتفرّعاتها العروضية، أكثر مما تكتبها مخيلة فردية، ملهمة ومبدعة. لقد أضحت القصيدة الموزونة، بعد هؤلاء، نصاً ميكانيكياً يتحكّم فيه النظم أكثر من الشعر، والصناعة أكثر من الإبداع. ولهذا نلحظ أنها تعيش أزمة كبيرة، من حيث انها حاضرة شكلاً، وغائبة روحاً. وهذا عائدٌ في جوهره إلى غياب الشاعر الكلاسيكي الفذّ، الذي يمتلك رؤية أولئك الراحلين الكبار، القادر على ترويض الإيقاع الخليلي، وجعله جزءاً عضوياً من أفق القصيدة الداخلي وتناميه النفسي والوجداني والبلاغي. لقد انحصر دور القصيدة العمودية، مثلاً، في مواضيع محدّدة وأزلية، كالمديح والرثاء، فالمناسبة هي التي تستحضر القصيدة وتجرّها من شعرها إلى هواء المنابر. وكما أنّ المناسبة حدث عابرٌ، تكون هذه القصيدة نصاً عابراً، يتلاشى حضوره ويندثر، لحظة الانتهاء من نظمه. وليس صحيحاً القول إنّ القصيدة الموزونة هي وحدها القادرة على أن تمسّ الوجدان العربي، الموقّع والمموسق بالفطرة، كما يحلو للبعض القول، وإلاّ لكان الكتاب جميعاً توقّفوا عن كتابة القصة والرواية والمسرحية وقصيدة النثر، واتجهوا جميعاً إلى بحور الشعر. ولكن، لا يمكن أن ننكر، في المقابل، أن القصيدة العمودية هي أكثر الأشكال التعبيرية تجذّراً وتأصّلاً في المخيلة العربية، وأكثرها قدرةً على العزف على تلك الهواجس الكامنة التي تعوّدنا التعبير عنها وترجمتها باستخدام وحدات عروضية منظّمة، رياضياً، ومحسوبة بالسنتيمتر. الذاكرة العربية ذاكرة إيقاعية بالدرجة الأولى، يطربها «البحر» الشعري وتبكيها القافية، وتتمايل على إيقاعات النحو والصرف بسهولة ويسر. لذلك من السهل كثيراً على شاعر القصيدة الموزونة النفاذ إلى ذائقة قارئه المعتادة على رقصة القوافي وترانيم البحور. في حين أنّ قصيدة النثر تجد نفسها أمام تحدّ أكبر وأصعب. فهي تتحرّك في مساحة بكر، وتحاول اغتيال ذاكرة منجزة عمرها آلاف السنين. من هنا نفهم رفض البعض من التقليديين، وهم كثر، حتى بين شعراء الحداثة، الاعتراف حتى الآن، بمشروعية أي نمطٍ كتابي شعري آخر لا يلتزم بمتن سلفنا الكبير، الفراهيدي وبحوره المتلاطمة. وليس خافياً أنّ شكل القصيدة الفني ليس معياراً تقويمياً يبرّر لها وجودها أو عدمه. فالشكل يستمدّ مشروعيته دائماً من المضمون، ورؤية الشاعر الجمالية للكون هي التي تحددّ، في نهاية المطاف، إبداعية النصّ وديمومته. فالشكل ليس قالباً نهائياً، أو جداراً إسمنتياً يستحيل اختراقه. فشكل القصيدة متحرّكٌ دائماً، يتقلّب ويتبدّل مع تبدّل وتقلّب هواجس الشاعر ورؤاه، بل وتقلّب وتبدّل ذائقة القارئ، وإيقاع زمنه وثقافته، وهو، أيّ الشكل، مرهونٌ دائماً بعناصر جمالية أخرى كالصور والرموز والكنايات والتوريات، والهوامش، والفراغات، وسواها، التي تساهم، جوهرياً في بناء او صقل ما ندعوه فضاء النصّ. إذاً، القيمة الشعرية لأيّ نصّ من النصوص لا تتأتّى من قدسية الشكل الفني، الذي يؤطّرهُ ويحتويه، بل من النظرة الجمالية الأصيلة للمبدع، وقدرته على إحداث انزياحاتٍ جذرية في شكل الجنس الأدبي ومضمونه، الذي يشتغل فيه وعليه. من هنا، فإنّ الحديث عن مستقبل القصيدة الحديثة لا بدّ من أن يأخذ في الاعتبار علاقة الشاعر بإيقاع عصره، وقدرته على قراءة مفردات الحياة الراهنة، وتحويلها شعرياً إلى رؤىً فنيةٍ أصيلةٍ، تتجاوز «تابوات» الشكل ومحرّماته. وإذا كانت القصيدة الموزونة تشهد انحساراً ملحوظاً اليوم، إذا استثنينا بعض التجارب القليلة، فهذا عائدٌ إلى غياب ذاك المبدع الرائي، والشاعر الفذّ، القادر على تجاوز بحور الخليل، وجعلها أكثر التصاقاً وتناغماً مع حركية الحياة والتاريخ واللغة. ولا غرابة في أن تكون قصيدة النثر قد جاءت لتسدّ بعضاً من ذاك الفراغ الهائل الذي خلّفته القصيدة الموزونة المنسحبة. وعندما يحضر نمطٌ كتابيٌّ جديد إلى المشهد الشعري، كقصيدة النثر مثلاً، يكون هذا مؤشّر غنىً وخصوبة، ومن الخطأ الاعتقاد بأنّ هذا القادم الجديد هو بمثابة إلغاءٍ وإقصاءٍ للسلف المتواري. إنّ مبدأ التجاور والتعايش بين الأجناس والأنماط الأدبية هو الضمانة الوحيدة لاستمرار أية ثقافة، وانحسار نمط أدبي أمام آخر ليس إيذاناً بانقراض هذا على حساب ذاك، بل هذا يمثّل الدورة الطبيعية للأدب الحيّ في كلّ الثقافات واللّغات.