«من بعدي ستغلق أبواب هذا المنزل!» يقولها سليم بحسرة بعد أن تجاوز الستين من عمره، ويجد نفسه وحيداً بين جدران بيته الذي بناه والده وعاش فيه طفولته مع إخوته وصولاً إلى الزواج والإنجاب، حيث شكّل هذا المنزل مساحة لتأسيس أسرة كبيرة بوجود الجدّين أيضاً. وقتها كان للحياة معنى آخر، كما يقول سليم، حيث تجتمع العائلة كلها بعد يوم طويل إلى طاولة العشاء ويقضون السهرات معاً ويتعاونون لتحمّل المصاعب ومشقات الحياة. أمّا اليوم، فالأمور اختلفت كلها. لم يعد أولاد سليم يزورون هذا البيت إلا مرة أو مرتين في السنة لأنّه «بعيد» من بيروت، ولم يبقَ فيه إلا سليم بعد أن فارقت زوجته الحياة. وعلى رغم أنّ الوالد حاول كثيراً أن يحسّن في منزله الواسع، لم يستطع أن يقنع أياً من أولاده الأربعة بالبقاء معه وتأسيس أسرته الخاصة في بيت العائلة، «فلا أحد يسكن مع أحد في هذه الأيام» كما يردّد بحزن. ليست حسرة سليم شعوراً يراوده فقط، بل هي تعبّر عن ظاهرة اجتماعية مهمّة جداً في لبنان، وتتمثّل بالزوال شبه الكامل لمفهوم بيت العائلة التي تكون فيه الأسرة ممتدة وتجمع الابن مع زوجته وأولاده، إضافة إلى الجدّين كحدّ أدنى. فالرغبة الكبيرة بالاستقلالية تفرض ذاتها على المجتمع بمختلف فئاته، ليصبح المسكن الخاص هو الطلب الأول حتّى لو كان ذلك باستئجار شقة ضيّقة. لا للسكن المشترك تقيّد، التزامات كثيرة، تدخل في الخصوصيات... مشكلات يجمع عليها معظم الذين استطلعتهم «الحياة» حول السكن مع الأهل في عمر الشباب، وصولاً إلى الأكبر سنّاً. فبيت العائلة ليس المكان المناسب للسكن في حال كان الشخص يبحث عن الاستقلالية في شؤونه كلها وتحرّر من الالتزامات الاجتماعية التي لا يزال كبار السنّ متمسّكين بها. وعن هذا الموضوع يقول رواد، وهو والد لطفلين، أنّه جرّب السكن في بيت العائلة ورأى فيه حلاً ينقذ به زواجه المؤجّل بسبب غلاء أسعار الشقق والدخل المحدود. لكنّ التجربة باءت بالفشل بعد حدوث إشكالات يومية بين الزوجين الجديدين والأهل حول أمور كثيرة، خصوصاً الرغبة في تأخير الإنجاب إلى حين توفّر القدرة المادية. لذا استأجر منزلاً صغيراً في انتظار أن ينشط عمله ليستطيع التفكير في شراء شقة، ف «منزل العائلة يجلب الهموم للساكنين فيه جميعاً» كما يقول. وهذا ما يؤيّده به معظم المتزوجين من الشباب، إذ باتت الاستقلالية العنصر الأساس المطلوب ليس فقط من الرجل بل من المرأة في شكل رئيس. من الأفضل إلى الأسوأ هذا التطوّر المجتمعي المهم الذي حصل في السنوات الماضية والانتقال شبه الكامل «من الأسرة الممتدة إلى النووية» يطرح تساؤلات عن الأسباب المحفّزة التي جعلت ترك بيت العائلة الخيار المفضّل عند الغالبية. وتلفت الاختصاصية الإجتماعية سمر رعيدي إلى أنّ الزواج في بيت العائلة كان فعلاً من الخيارات المفضّلة عند كثر، إذ كان يعتبر بمثابة الشبكة الاجتماعية الداعمة للأسرة الجديدة. وكان السكن مع الأهل يؤمّن أجواء عائلية، وكان الأحفاد يكبرون في محيط الجدّ والجدّة، كما كان كبار السنّ يقدمون الدعم والخبرات اللازمة لتربية الأبناء. وتشير رعيدي إلى أنّه كان للأسرة الممتدة الدور الأكبر في تربية الأطفال على القيم والأخلاق. فما الذي تغيّر؟ وكيف بات بيت العائلة الخيار المكروه؟ السبب الأول الذي تذكره رعيدي هو خروج المرأة من المنزل للعمل وتأسيس نفسها مهنياً، فبات مرفوضاً تدخّل أهلها في حياتها، وكيف الحال بأهل الزوج الذين يمكن أن يكون لديهم ملاحظاتهم عن ساعات العمل الطويلة وعدم قدرة المرأة على قضاء الأيام كلّها مع أطفالها والقاطنين معها في المنزل كما كان في السابق. وهذا ما يحدث فعلاً، حيث إنّ المنزل المستقل أضحى الطلب الرئيس للفتيات في عمر الزواج، ولو تطلّب ذلك من الزوجين العمل في شكل مضاعف لتسديد أقساط السكن. فمع تغيّر العادات الاجتماعية المرتبطة بطريقة الزواج واستقلالية المرأة المتزايدة والتبدّلات في شخصية الرجل أيضاً محاكاة للتطورات التي تمرّ بها زوجته، أصبحت العودة إلى بيت العائلة أمراً شبه مستحيل. وإذا كانت الاستقلالية هي الجانب اللمّاع أو الإيجابي لهذا الموضوع، لا تغضّ رعيدي النظر عن سلبيات نتجت من هذا التغير الاجتماعي، ومنها عدم مساهمة كبار السنّ في تربية الأطفال ونقل القيم لهم، فيما تُسلّم هذه المهمة للحاضنة أو العاملة المنزلية في حال كانت المرأة غائبة طوال النهار عن بيتها. وتؤكّد رعيدي أهمية حفظ العلاقات مع الأكبر سناً، خصوصاً علاقة الطفل بجدّه وجدّته لأنّها أساسية في تكوين شخصيته وتأسيسه على مبدأ أهمية الأسرة، ما يؤثّر في خياراته المستقبلية.