قبل سقوط بغداد في نيسان (أبريل) 2003، لم يكن في الرياض سوى مطعم واحد يقدم الكباب العراقي (على أصوله)، وكنت أتردد عليه من وقت لآخر، مع الأخ عبدالله الفواز، أو عندما يزورنا الصديق الدكتور عدنان عيدان ويحضر البروفيسور فلاح رضا. بعد الاحتلال الأميركي تزايد عدد المطاعم العراقية في الرياض. ولأنني من عشاق «الدولمة» و«الباجة» و«التشريب»، زرت جميع المطاعم العراقية، لكن اثنين من هذه المطاعم الكثيرة، لم أزرهما لسببين: المطعم الأول وجدته يقدم من ضمن الأطعمة العراقية التي يقدمها، أكلة اسمها:ال«قيمة»، أو ال«جيمة» كما يلفظها أهل العراق، وأنا أكره ال«جيمة» على رغم أنها أكلة لذيذة، لأنني عرفت متأخراً أن أصول هذه الأكلة فارسية، وأنا رجل أكره الفرس، ولا يمكن أن أتصالح معهم إلا إذا تصالح مع كسرى هاني ابن مسعود الشيباني، وتصالح رستم مع سعد ابن ابي وقاص. أما المطعم الثاني، وهو افتتح في الوقت الذي كانت فيه الطائرات الأميركية تقصف أحياء الفلوجة الغربية، لهذا قاطعته، لأنني عرفت الفلوجة وتعرفت إلى أهلها لأكثر من ربع قرن مضت، وكنت عرفت في وقت مبكر أنها لقبت ب «أم الجوامع» لكثره مساجدها، وكنت أدركت مبكراً أيضاً، أن هذه المدينة المتغطرسة بجذورها الثابتة في عمق التاريخ، وتنام على ضفتي الفرات. هذه المدينة الباسقة كنخلة، لم توجد على هذه الأرض، لتشوي الكباب وتحمر الدجاج، بل إنها وجدت لدحر الغزاة وشي جيوشهم في نيرانها، من هولاكو وإلى بوش الولد. من المعيب أن يستغل تاجر تعاطف الآخرين مع أهل الفلوجة في مذبحتهم الثانية ضد الجيش الأميركي، ليزيد من عدد زبائنه.. من المخجل أن تسمح البلدية بفسح محل يحمل هذا الاسم النبيل، كما سمحت لآخرين أن يفتحوا متاجر للخياطة باسم صلاح الدين ومطاعم باسم «المئوية»! يشكّل الشباب نصف المجتمع السعودي، وهم عرفوا أخيراً أن في تاريخهم سيفاً عظيماً، اسمه: الأجرب، ويا خوفي أن تفسح البلدية مطعماً باسم «الأجرب»، غير مدركة أن هذا السيف أو أمير السيوف كما وصفه الدكتور غازي القصيبي، أسّس لأكبر وحدة عربية، تمثلت في توحيد المملكة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن (رحمه الله). صحيح أنه لا يوجد في المملكة مطعم يقدم المطبخ العراقي بمواصفاته الحقيقية ومن فئة الخمس نجوم، كما هي حال المطاعم الإيرانية، لأن تاجراً واحداً لا يجرؤ على مغامرة مثل هذه، وجميع عشاق الأكل العراقي في المملكة، يعرفون أن لذة الأكل العراقي ب«شعبيته» و«بساطة تقديمه». ليس هناك ألذ من الكباب الذي يقدمه الباعة الجائلون في حي «علي شرقي» وسط بغداد. تأكل على أرصفة بغداد أربعة «نفرات معلاق» ولا تشبع. رحم الله صديقنا العزيز الشاعر كمال سبتي، كان صعلوكاً حقيقياً، اختار أن يستأجر غرفة في أحد الفنادق الرخيصة وسط العاصمة بغداد. كان يردد دائماً أنه لا يحتاج إلى منبه، لأن صوت الباعة الجائلين يوقظه قبل طلوع الشمس، فينزل إلى الشارع يأكل الكبدة المشوية وقليلاً من «الكاهي»، ويعود إلى غرفته ليمارس فعله المجنون في الكتابة. هاجر كمال إلى السويد مع بدايات حرب الخليج الثانية، وسمعت أنه إلى أن توفي في مدينة مالمو جنوبالسويد، لم يعزم أصدقاءه قط، وعرفت أنه ليس بخلاً، ولكن لأن ليس في السويد مطاعم على الأرصفة. كان كمال يحب الأكل على الأرصفة، ويجد متعة عالية عندما يدعو أصدقاءه على أرصفة بغداد. وبعيداً عن الأسماء والمسميات والأكلات العراقية اللذيذة، لم يبق لي إلا أن أقول: تباً لك أيتها الذاكرة الخرساء لقد استحضرت كمال سبتي، بينما لا أزال أردد أنني كنت حياً، على غرار قصيدة الشاعر السوداني بدر الدين عمر، الذي كتب قصيدة، بعنوان: «كنت سودانياً»، وعلّق عليها الزميل معاوية ياسين في هذه الصحيفة. أن تتنفس لا يعني أنك حيّ. ميت من يبحث عن أصدقائه الذين توازعتهم المنافي، عبر الفيس بوك، وعن أكلته المفضلة في مطاعم ليس فيها طباخ عراقي واحد. تباً لك أيتها الذاكرة الخرساء، فقد استحضرت الوجع.