من المتعارف عليه أن يكتب الروائي عن رؤيته تجاه الكتابة، عن نصه الروائي، وعلاقته به، منذ اصطياد الفكرة الأولى قبيل الشروع بالبحث والكتابة، وحتى الأسلوب والتكنيك المستخدم في الكتابة، لكنني هنا أفكّر في ما حول النص، في الثقافة التي أنتجته، والظروف المحيطة التي أسهمت في ولادته، والتحولات التي طوَّرت هذا النص، منذ الطفولة المبكرة، أو ما قبل مرحلة القراءة، وحتى مرحلة النضج، ولعل ما أحب استعادته أحياناً هو ما يُروى عن طفولتي قبل تعلُّم القراءة، أي منذ الرابعة تقريباً، وحتى السابعة، إذ اجتمعت ظروف أسرية أسهمت في بناء تلك المرحلة، منها أن ولدتُ لأمّ شمالية الهوى، تسري الحكايات في عروقها، إذ تقودها بفتنة كما شهرزاد، تدعمها بذلك ذاكرة يقظة، تلك الأم التي علمتني كيف أنصت وأتخيَّل معاً وأنا في الثانية، وعلَّمتُها متى تكفُّ عن الحكي، وتضمني فجأة إلى صدرها، كي تُوقف عبرةً ارتسمت على ملامحي، محبطةً مشروع دمعة مؤجلة، كثيراً ما أستعيد ما يُروى عن ذلك، فأشعر بالمبالغة أحياناً، وأتساءل، هل كانت حكاية الطفلة التي يتركها أبوها في الصحراء مفهومة لطفل الثالثة مثلاً، إلى حد أن تجلب تعاطفه ودمعته؟ ربما. ومع سرد أمي السخيّ والمتجدِّد، كنت محظوظاً بأربع شقيقات يلتهمن السرد بشغف، وقد شكَّلن طفولتي، وصنعنها باحتراف، علمنني القراءة والكتابة والتأمل، حتى كدت أجزم أن المرأة لا تشكّل الرجل داخل رحمها، وإنما لا تتوقف أبداً عن تكوينه، وإعادة تشكيله، في مختلف مراحل عمره. في مدرسة الجاحظ الابتدائية بدأت رحلتي مع قصص سلسلة المكتبة الخضراء، مما ترك أثراً كبيراً على ذائقتي السردية من جهة، ومما علَّمني الرسم والخط العربي، حينما بدأت أحاكي رسومات هذه القصص وخط النسخ المكتوبة به. وعلى رغم أنني احتفظت بمخيلة الطفل وتأملاته، إلا أن القراءة لم تعد مجرَّد تسلية كما البدايات، وإنما أصبحت مخزوناً فكريّاً وثقافيّاً، وقد ازددت وعياً وخبرة في الاختيار، بما انعكس على ذائقتي، خصوصاً في المرحلة المتوسطة، وبعد اكتشاف مغارة المكتبة العربية في شارع الشميسي الجديد، تلك المغارة التي تسللت من دهاليزها المظلمة، شخصيات تشارلز ديكنز، وفكتور هوغو، وأرسين لوبين، وغيرهم، راكضين على أرصفة عتيقة، يطوفون مرةً حول محطة اليمامة للوقود، ويتفرجون مرةً ثانية على الشبان السود، غاسلي السيارات بجوار المحطة، وثالثة يركضون كالجن في ساحات مستشفى الشميسي وحدائقها.. يصوّرون قرب الأزهار البيضاء اليانعة، لن أنسى ما حييت كيف تتبعت الصبي أوليفر تويست، وقد تسلل خارجاً من المكتبة، متشرّداً بملابسه الرثَّة، ومظهره البائس، صاعداً مرتفعات أم سليم، ومنحدراً في أزقتها الضيّقة، كنت أسمع أنفاسه، وأحياناً لهاثه، حتى أنني سألته مرة أن يشترك معي في بيع الجرائد، «الجزيرة» و«الرياض»، عند إشارة المرور، لكنه تأمل الصحف فوق ذراعي، حدَّق لوهلة، ثم ابتسم ومضى من دون أن يجيب، ربما لم يفهم الكلمات العربية في الجريدة، وربما لم يفهم لغتي! كبرتُ، وأصبحت أكثر شغفاً باللغة، أتذكَّر أنني تحت سور ثانوية الجزيرة، كنت أوقف سيارتي قبيل طابور الصباح، أبقى دقائق داخلها، كي لا أقاطع محمود درويش، فأدعه يكمل قصيدته «مديح الظل العالي» في مسجل السيارة، وحتى حين أنزل وأمشي، كان صوته يضرب قلبي، وهو يصيح: لا مفر... سقطت ذراعك فالتقطها، لا مفر، وسقطتُ قربك فالتقطني، واضرب عدوك بي، فأنت الآن حر، وحر، وحر. هذا الإحساس العالي بالتشرد، الذي تأسست عليه قراءاتي في طفولتي المبكرة، لم يعد تشرداً إنسانياً بسبب الفقر والبؤس، كما في أوليفر تويست، وإنما هو تشريد لملايين الفلسطينيين، ممن تجمعني بهم الهوية والدين والإنسانية أيضاً، حتى أصبحت تلك أكثر نضجاً في الجامعة، مع زملائي باللجنة الثقافية لكلية العلوم الإدارية، بجامعة الملك سعود، وأكثرهم كانوا طلاب العلوم السياسية، فأصبحنا نحتفل سنوياً بيوم الأرض، وننشر قصائد درويش المتنوعة. لم تقتصر قراءاتي الشعرية في مرحلة الثانوية على درويش، بل كان نزار قباني يغزل الكلمات ليلاً، ويضيء بها ظلام غرفتي، وهو يوشوش بصوته الرخيم، فامتزجتُ آنذاك بالشعر الحديث، واكتشفت سعدي يوسف، الذي يلوي القصيدة ببراعة كي تلامس اليومي والبسيط، كيف يجعل كل الأشياء صالحة شعراً، وكذلك ترجماته، أونغاريتي، ويانيس ريتسوس، وجاك بريفير، ولوركا وغيرهم، ممن أعاد تشكيل نظرتي إلى العالم، من خلال الهامشي والمهمل، حتى انعكست في ما بعد على نصي القصصي، وعلى صوري الفوتوغرافية، حينما كنت فنَّاناً فوتوغرافيّاً، أزاوج بين الشعر والصورة في زاويتي «فضاء البصر» بجريدة الرياض خلال عامي 1997-1998. قبل ذلك في أواخر الثانوية، قرأت مجموعة قصصية عنوانها «الزحف الأبيض» كتبتها لطيفة إبراهيم السالم، وقد أمسكت بي تلك القصص من كمّي، وأخذتني إلى عوالم القصة القصيرة بدهشة، ومنها تعرفت على سعوديين آخرين، من جيل السبعينات والثمانينات، مثل حسين علي حسين، جارالله الحميد، عبدالعزيز مشري، عبدالله باخشوين، إضافة إلى كُتَّاب القصة البحرينيين، الذي راهنوا كثيراً على اللغة، مثل أمين صالح، ومحمد عبدالملك، وعبدالقادر عقيل وغيرهم... تلك الفترة التي بدأت فيها كتابة القصة القصيرة، ونشرها على استحياء وتردُّد وارتباك، قبل أن يمنحني يوسف إدريس، وغسان كنفاني، وزكريا تامر وغيرهم المزيد من الشغف والحيوية، وقد مدَّ لي كل واحد منهم غصن غواية كي أهبط عالم القصّ، متسلحاً بالوصايا، التي اكتملت مع (الحساسية الجديدة) لإدوار الخراط، الذي أدخلني خفيفاً ومتجرداً إلى وعي جديد بفن السرد، حتى تطورت ليست ذائقتي فحسب، وإنما وعيي النقدي تجاه ما أقرأ، وما أكتب أيضاً. آنذاك، كانت رحلتي عميقة مع قصيدة النثر، منذ أنسي الحاج، وشوقي أبوشقراء، وحتى تجارب وديع سعادة، وسركون بولص، وبسام حجار، وأمجد ناصر، وإسكندر حبش، وغيرهم ممن كتب القصيدة الخافتة، متخلصاً من ضجيج قصيدة التفعيلة، وصوتها العالي. هل اكتفيت بالقراءة فحسب، كمصدر تكوين ثقافي، أم كان ثمَّة أصدقاء يدفعون بي إلى ملكوت السرد؟ حتماً كان منزل القاص صالح الأشقر، الذي باغتني فيه فوكنر ذات مساء، بقصصه القصيرة الفاتنة، كيف لا، وقصة «وردة من أجل إيميلي» لم تزل تلاحقني، وغيرها من روائعه، وروايته «الصخب والعنف»، كانت الحالة ثقافية وإبداعية، كذلك كانت اللحظات التي أنهكتنا قراءة القصائد فيها، سواء في مقهى روما، أم في بهو فندق صلاح الدين، سواء مع أصدقائي مازن اليحيا، علي العمري، أحمد البوق، أحمد كتوعه، ثم جماعة 96 الشعرية، التي انضمت فيها جماعتنا، مع جماعة الشرقية، أحمد الملا، إبراهيم الحسين، عبدالله السفر، غسان الخنيزي، وغيرهم، كنَّا نشاكس نصوص بعضنا بعضاً بجرأة، نحذف ونبدّل الكلمات، لم نعد كجيل الثمانينات الذي سبقنا، فلم تكن للنص قداسته، وإنما كنا أشقياء ومشاكسين، نعبث ونغيّر، بل ونسخر أحياناً من نصوصنا، وعناوين أعمالنا، تلك الفترة التي صدرت مجموعتي «لا بد أن أحداً حرَّك الكراسة» تلك النصوص السردية المتورطة بالشعر، لم أكن أرغب في إصدار هذا العمل، الذي سبقته مجموعتان قصصيتان، لكن العمل ضمن جماعة، يجعل الكاتب يتورط أحياناً، وقد فوجئت بهم يسلمونني المخطوطة التي جاءت من الناشر، دار الجديد ببيروت، فلم يكن أمامي سوى مراجعتها، ونشرها... كانت مرحلة تكوين ثقافي مميزة، تشكلت فيها ذائقتي السينمائية، في أفلام مدهشة لأكير كيراساوا، وفيللني، حيث نستمتع في مشاهدتها وتحليلها في شقة صغيرة لأحمد كتوعة، في الطوابق العليا من أبراج الخالدية، بشارع الخزان. بعد ذلك أصبحت القراءة لديَّ انتقائية ومختلفة، خصوصاً في مطلع الدراسة الجامعية، والتحاقي باللجنة الثقافية بكلية العلوم الإدارية، واكتشافي غابرييل غارسيا ماركيز، والواقعية السحرية لدى جيل الستينات في أميركا اللاتينية، ثم الرواية اليابانية مع جيل الخمسينات هناك، مثل يوكيوميشيما، وياسوناريكاواباتا، وتانيزاكي، وغيرهم، وقبل ذلك التعرف على السرد الروسي، لدى دوستويفسكي، وتشيخوف، وغوغول، الذي فتح «المعطف» لي، ذات نهار، وقفز منه كبار كتاب السرد وسحرته المدهشين. خلال تلقّي كل هذه المصادر المتنوعة من التكوين الثقافي، والشغف بالقراءة الأدبية، مررت بتربية جادَّة للذائقة الفنية، من خلال الخط العربي، الفن التشكيلي، والفوتوغرافي، فبينما كنت فاشلاً في مادة الخط العربي، مما يُغضب أمي وأخواتي، قررت في الرابع الابتدائي أن أتحدى هذه الخسارات، وأعلّم نفسي جيداً، كيف أصنع الحروف بما فيها من جمال، فلم يكن ثمَّة معلم، أكثر إخلاصاً لي، من الصحف القديمة التي تجلبها أختي من بيتها، حيث كانت خطوط العناوين آنذاك يدوية، فتعلمت منها خطي النسخ والرقعة، ثم تعلمت الديواني والفارسي من زميلي في الثانوية، أما رائحة الزيت، وقماش الكانفاس، فنهاية عهدي بها كانت لوحات البورتريه، وجائزة طفولة نلتها من كوريا الجنوبية على مستوى المدارس، عن لوحة «يوم الأم»، بينما انهمكت تماماً في فن الفوتوغراف، ملتقطاً بعدسة كاميرا أوليمبس، لحظات الغروب، والنخيل الشامخ في مزارع الحزام الأخضر غرب حي عليشة، مستخدماً العدسات المختلفة، والفلاتر الملوَّنة، حتى توجت ذلك بزاويتي الصحافية «فضاء البصر» بصحيفة «الرياض»، ثم درست الفوتوغراف في ما بعد في كلية نورج في بريطانيا، دخلت ما يسمى ال«دارك روم» منغمساً بروائح السوائل الكيماوية، مظهراً الصور ومثبتاً لها، بالطريقة التقليدية العتيقة. وحين أستعيد شغفي بالفن التشكيلي، لا يمكنني تجاوز أجمل لحظات شبابي المبكر، التي عشتها في بيت الفنان الراحل عبدالجبار اليحيا، كان أبي في الفن، وجدت فيه فناناً مثقفاً، يتقبل حوار الشاب الصغير، ويحتويه، ويستمتع بقصصه القصيرة، لدرجة أن رسم لوحة لمجموعتي القصصية الأولى «ظهيرة لا مشاة لها»، وراقت له قصة قصيرة جداً، عن جزار يهوي بالساطور في صدر الذبيحة، فيسقط القلب على بلاط أبي، وهو ينبض مضرجاً بالدم، قال لي آنذاك إن هذه لوحة جاهزة، كان يفكّر برسم المشهد تشكيليّاً، ولا أعتقد أنه فعل ذلك. هكذا كانت الريشة والعدسة والكلمات تسير معاً، بشكل تلقائي، لتكوّن معاً رؤيتي تجاه العالم، تصحبها قراءات أخرى خارج الأدب، في الفلسفة والتراث، حيث كانت قراءة تاريخ الفلسفة أمراً شائكاً لمثلي، أو ممن يخلو تعليمه الرسمي منها، حتى جاءت رواية أستاذ الفلسفة النروجي غوستاين غاردر «عالم صوفي» كوجبة فلسفية لذيذة، ونافذة مفتوحة على أفق كان من الصعب رؤيته وفهمه وتبسيطه. هل كانت كتابة الرواية، في ما بعد، نتاجاً طبيعياً لكل هذه المصادر على مدى ثلاثة عقود من الزمن؟ هل الأدوات التي اكتسبتها خلال هذه الرحلة شفعت لي، لأدخل واثقاً، إلى عالم الفن الروائي الأثير؟ هل كان العام 1996 حاسماً، لأغامر عارياً إلا من هذه القراءات والممارسات، في كتابة أول تجربة روائية متعثرة، اسمها «لغط موتى». كنتُ وقتها قبل أن أنام، أتسلل إلى مكتبتي التي كانت عبارة عن بلكونة مطلة على جاري الساكن في الطابق السفلي، ومقفلة بخشب رهيف لا يمنع وشوشة الموتى الذين يأنسون لضوء شمعة صغيرة فوق طاولتي، فيتقاطرون وهم يحسبونها ناراً، حتى ينفخ أحدهم في عرفها المتأرجح، لتخمد، ثم يشاغبونني في نصي الذي كنت أكتبه، يأخذ أحدهم القلم من يدي، ويكتب ذكرياته الحميمة، وفي الصباح أكتشف أن كلماتهم تساقطت كالحجارة من نافذة الطابق العلوي، فأهرول راكضاً لأجمعها على عجل، وأعيدها إلى الكراسة، يا لها من كلمات، ويا له من لغط شفيف وغريب أيضاً. * ألقيت هذه الورقة في معرض الكتاب الدولي بمسقط في 1 (آذار) مارس 2016 في أمسية نظمها النادي الثقافي بسلطنة عمان. روائي سعودي.