رواية أحمد ناجي «استخدام الحياة» (دار التنوير) هي رواية تحكي عن سأم الشباب في الألفية الثالثة وربما عن واقع القاهرة قبل الثورة وتتنبأ بزوالها. ومع ذلك ينطوي العمل على بحث عميق في تاريخ القاهرة وعمارتها ونشأة عشوائياتها، عبر بطل الرواية «باسم»، الذي يعمل في تحضير أفلام تسجيلية عما آلت إليه العاصمة المصرية من قبح وتشوه. المحور الرئيسي في هذه الرواية ليس الجسد ولا الهوس الجنسي، ولكن دراسة اجتماعية لتطور مفهوم الرغبة الجنسية عند الشباب والانطلاق في مجتمع تؤخر ظروفه الاقتصادية سن الزواج ويبيح اختلاط الجنسين من دون وضع ضوابط تساعدهم على التأقلم الإيجابي. فتبدو الرواية كأنها دراسة انثروبولوجية عن أمزجة الجيل الجديد وتعاطيه المخدرات والجنس السريع المتوتر في مدينة تعاني من العشوائية والجهل والمرض. تُمثّل قصة «باسم» مع «موني» و»ريم» قصة كثير من الشباب الذي تمزَّق بين ثقافتين؛ ثقافة الغرب المنفتح وثقافة الشرق المتحفظ والتطهر الكاذب لدى بعض أفراده. ما كتبه أحمد ناجي ليس جديداً على تاريخ الأدب، فكثير من الكتب المترجمة من أعمال هنري ميلر ودي اتش لورانس تتعامل مع الرغبة على أنها من العمليات الحيوية والتي تعرف عند سيغموند فرويد باسم «مبدأ اللذة»، ذكرها في كتابه «الحضارة ومساوئها» حيث أثبت أنّ الحروب التي يخوضها الإنسان سببها العقلانية والتبتل الشديد الذي يؤدي به إلى الكبت والعصاب. تتابع رواية ناجي تطور شخصية البطل، فهو في البداية عدمي ليس لديه مسلَّمات روحانية يعيش بها، بل هو شخص بوهيمي نتيجة عدم تحققه في ظل غياب منظومة حضارية ينتمي إليها. فالمدينة العشوائية لا تخلق غير الفوضى والانكسارات. تقاليد الكتابة تنتمي إلى ما يسمى كتابة جيل الثلاثينات، أو كتابة الانحدار التي تجلت في شكل خاص بعد الحرب العالمية الأولى عندما هاجر كثير من الكتاب إلى باريس وتمردوا على الأنماط الأدبية كافة، ثم عادت في الستينات عبر حركة سياسية ثقافية تحتفي بالجنس والمخدرات وموسيقى الروك أند الرول. ثم ظهرت بوضوح في رواية «على الطريق» لجاك كرواك، وفي الشعر أيضاً عند آلن جانسبرغ، وبخاصة في قصيدته «العواء» التي تحدث فيها عن الواقع الأميركي وثقافة الاستهلاك والحروب التي خاضتها الولاياتالمتحدة. رواية ناجي، تكشف التاريخ الماسوني السرّي للقاهرة عبر البنية التحتية المتهالكة والتي يمرّ بها البطل من طريق المعماري «إيهاب حسن»، الذي يؤسس جمعية سرية تهتم بعالم القاهرة السُفلي. وتنتمي هذه الرواية كذلك إلى ما يعرف بالواقعية القذرة، وهي حركة معروفة في الأدب ومعترف بها نقدياً، وهي تكشف من خلال الحكي واللغة المبتذلة عالم الرذيلة والجانب المظلم للحضارة بخاصة في أوقات الحروب والثورات، احتجاجاً على غياب الأمن وتدهور منظومة القيم. تحكي رواية «استخدام الحياة»، عن شاب لم يكمل عامه الثالث والعشرين، تعرَّف على امرأة متحررة تكبره سناً، ما يعيد إلى الأذهان رواية مصرية مشهورة في الستينات هي «شباب امرأة»، للكاتب أمين يوسف غراب، تحولت إلى فيلم يحمل العنوان نفسه، للمخرج صلاح أبو سيف. علاقة بطل رواية ناجي بالبطلة «موني»، هي علاقة شائكة، إذ يتم من خلالها اكتشاف التاريخ الجسدي للرجل والمرأة من مرحلة الابتذال إلى السمو الروحي، باعتباره المفهوم الأعمق للحب. تعكس الرواية معرفة كبيرة بعالم الشباب، وتستند في ذلك إلى عمل كاتبها بالصحافة، ما جعل حالة الوثائقية واضحة في العمل، وكاشفة جوانب التدهور الذي وصلت إليه الأخلاق البشرية بلغة أدبية، حتى وإن تجرأ الكاتب على ذكر ألفاظ بعينها، فهو إنما فعل ذلك في سياق الفعل الأدبي. وليس هذا تبريراً لتسمية الأشياء بأسمائها، ولكنه يأتي في سياق أن ثمة مدارس أدبية حديثة تجيز للأديب أن يتعامل بحرية مع تلك الألفاظ، فضلاً عن أن التراث الأدبي العربي نفسه يذخر بمثل ذلك، كما في «ألف ليلة وليلة» مثلاً. وعلى أية حال، تعكس الرواية أزمة كبيرة في وعي الجيل الجديد بمعنى الحياة ومفهوم العدمية. وعلى رغم جرأة ناجي في استخدام بعض الألفاظ الخاصة بالشبق، إلا أنه امتلك قدرة عالية على الوصول إلى حالة من الشاعرية الراقية في وصف العوالم الداخلية للأبطال ورصد مدينة القاهرة في تحولّها وتبدلها. البطل في رواية «استخدام الحياة»، عدمي، على غرار أبطال سارتر وكامو وجويس، وهو مثل «كمال عبدالجواد» في ثلاثية نجيب محفوظ، درَسَ السياسة والاقتصاد، ولكنه يعمل في بحثٍ عن العمارة والمنظمات الجديدة التي تهتم بالتأصيل لمدينة تزول بفعل كارثة بيئية أو سياسية. وأخيراً، فإن هذه الرواية التي حوكم صاحبها ودين بزعم أنها «تخدش الحياء العام»، هي في نظري رواية ممتعة بما تعكسه من حيرة وجودية ربما لا يستسيغها بعضهم، بما أنها تنطوي على تشاؤمية فاضحة لكل العوالم السرية لمدينة القاهرة.