نحن العراقيين معنيون بالانتخابات البريطانية من أكثر من وجه، إذ لا يقتصر الأمر على الجانب الحضاري للعلاقة بين الشعبين العراقي والبريطاني والمتمثل في فوز بريطاني من أصل عراقي كردي هو رجل الأعمال ناظم الزهاوي بمقعد في مجلس العموم عن حزب المحافظين. وهو ما يؤشر الى صورة مشرقة لقدرة الإنسان العراقي على الاندماج الايجابي في مجتمعات أخرى والوفاء باستحقاقات المواطنة إلى درجة ائتمان مواطني البلد الأصليين له على مصالحهم ومصالح بلادهم الحيوية من خلال اختياره لتمثيلهم في أعلى سلطة تشريعية في البلد. بل هناك أيضاً جوانب تتعلق بأوجه الشبه الظاهري بين التجربتين ونتائجهما وإفرازاتهما والاختلاف بين مضمونيهما فكراً وممارسة وسلوكاً وعلاقات وأساليب تعامل وإدارة للأزمة. فالشبه الشكلي يتمحور حول عدم فوز أي من الأحزاب المتنافسة بغالبية مطلقة تؤهله لتشكيل الحكومة بمفرده وضرورة الذهاب إلى حكومة ائتلافية كبديل من حكومة أقلية قد لا تصمد طويلاً. أما الاختلاف البنيوي الأساسي فهو في المضمون، إذ تقابل العقلانية السياسية في المشهد البريطاني العاطفية والبدائية السياسية في المشهد العراقي، وعقلية التوافق والمشاركة في لندن تقابلها عقلية الصراع والمغالبة في بغداد، وسلاسة التداول السلمي للسلطة بين الأحزاب البريطانية يقابلها التشبث الكارثي بكرسي الحكم لدى القوى العراقية، والتضحية ونكران الذات هناك تقابلهما الأثرة وغلبة المصالح الخاصة على المصلحة العامة هنا. كانت الانتخابات فرصة أخرى أثبت البريطانيون من خلالها أن دولتهم هي دولة مؤسسات بامتياز لا دولة زعامات وعصبيات، فقد استقال رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب العمال غوردن براون بكل سلاسة وهدوء ومن دون أن يحرج شركاءه الفائزين بمواقف أو قرارات تؤدي إلى إطالة أمد تشكيل الحكومة الجديدة، بل إنه تعفف عن التمسك بالمنصب الحزبي بمجرد أن وجد أن بقاءه في موقعه سيعيق تحالف حزبه مع حزب الديموقراطيين الأحرار. في المقابل، أي في الحالة العراقية، فما زالت العملية السياسية عملية «شخصية» إلى أبعد الحدود وبدل أن يتبنى السياسيون برامج وأجندات ووجهات نظر أحزابهم وكتلهم السياسية نجد الكتل والبرامج تختزل وتذوب في شخص الفرد الزعيم وطموحه في حيازة منصب على حساب مصلحة البلاد أو البقاء في منصبه إلى ما لا نهاية! ومن دلائل المؤسساتية الحاكمة في المملكة المتحدة أن البلاد بقيت خمسة أيام بلا حكومة ومع ذلك لم تتأثر إدارة الدولة للحياة اليومية للمواطن والوطن، والسبب هو رسوخ مشروع الدولة ورصانة البنية المؤسسية. فبعد كل انتخابات يتولى الحزب الفائز السلطة (الحكومة) من دون أن يبتلع الدولة، إذ إن أي تمدد لرقعة وجود الحزب على حساب الدولة سيقضي على مشروعها. وبالتالي فإن الدولة بهيكليتيها المؤسساتية والقانونية تتميز بالرسوخ والثبات وتستمر خلال كل انتقال للسلطة في تأدية دورها وتوفير الأمن وتقديم الخدمات للمواطنين وحماية المصالح الوطنية. اللافت للنظر في الحالة البريطانية أيضاً حضور النزعة الأخلاقية بوضوح في العمل السياسي، فهذا النائب المتنفذ عن حزب المحافظين مالكولم ريفكيند، يقول غاضباً: «كنا نظن أننا نجري مناقشات مشرفة مع نيك كليغ (زعيم حزب الديموقراطيين الأحرار)، وإذ بنا نكتشف أنه يلتقي غوردن براون سراً!». فهذا النائب يعتقد أن اللقاءات السياسية السرية وغياب الشفافية طعنة في شرف المفاوضات! ترى ماذا سيكون رأيه إذا اطلع على سلوكيات شوهت العمل السياسي في العراق، منها خيانة شرف الكلمة وعدم التورع عن الكذب والافتراء؟! وفي الوقت الذي تتسابق فيه كتل سياسية عراقية متنافسة على تبني المواقف المتصلبة وخوض الصراعات العدمية التي تعيد المشهد إلى نقطة الصفر، نجد الأحزاب البريطانية تتسابق على إبداء المرونة وتقديم التنازلات لبعضها في سبيل تسهيل تشكيل الحكومة. فقد وقع ديفيد كاميرون زعيم المحافظين ونيك كليغ زعيم الديموقراطيين الأحرار اتفاقية من 7 صفحات لتقاسم السلطة، تضمنت تنازلات متبادلة في قضايا حيوية في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية من برنامجي الحزبين في سبيل تحقيق التقارب والتفاهم بينهما والتسريع في تشكيل الحكومة. لقد استقال غوردن براون بعد 13سنة قضاها حزب العمال على رأس السلطة، وانسحب العمال بكل رحابة صدر وقبلوا بفوز حزب المحافظين منافسهم السياسي التقليدي وأقروا ذلك بروح رياضية. وعلى رغم أنهم فائزون في المرتبة الثانية فقد تركوا لحزب المحافظين الفائز بالغالبية النسبية تشكيل الحكومة مع حزب الديموقراطيين الأحرار. لم يتكلم العمال عن شرعية تاريخية نظراً لبقائهم في السلطة لثلاث دورات برلمانية، ولم يتكلموا عن شرعية الإنجاز التي ربما كرسها بلير ببقائه رئيساً للوزراء مرتين أو براون ببقائه وزيراً للخزانة لعشر سنوات. بل لم يستهن أحد بفوز المحافظين أو يقلل من شأن الفارق النسبي في عدد مقاعدهم عن مقاعد منافسيهم العمال وهو 48 مقعداً في برلمان يتألف من 650 مقعداً وغالبيته المطلقة 326 مقعداً، فالفوز هو الفوز سواء جاء بالغالبية المطلقة أو النسبية، وهكذا رضخ الجميع لشرعية صناديق الاقتراع ودخلت المملكة المتحدة سباق التغيير العالمي على خطى الولاياتالمتحدة التي دخلته بانتخاب باراك اوباما رئيساً. البريطانيون بالتأكيد ليسوا ملائكة لكنها التجربة الديموقراطية والسياسية التي عركتهم وعلمتهم أن مصلحة البلاد هي في الاستقرار السياسي ونبذ الصراع. وأن السلطة ليست أبدية، وأن الأيام دول. ففي ظل ثراء الحياة السياسية والاجتماعية وتوزع الثروة وحيوية المجتمع المدني وقوة الاقتصاد يصبح التمسك بالسلطة أمراً مرفوضاً من المجتمع والرأي العام. ويكفي طموح السياسي أن يصل مرة إلى أعلى قمة هرم السلطة ليؤدي دوره ثم ينصرف بكل هدوء ليعود مواطناً عادياً أو كما وصف غوردن براون نفسه بأنه سيعود بعد استقالته من وظيفته كرئيس للوزراء إلى «وظيفته الأولى في الحياة»، وهي أن يكون «زوجا وأباً». لقد التقيت الرجل مراراً خلال زياراته بغداد، وخلافاً لانطباعاتي العادية عنه سابقاً، كبر بعيني كثيراً بموقفه هذا الذي يستحق فعلاً كل الاحترام. وفي المشهد السياسي البريطاني وجدنا الاقتصاد حاضراً بقوة. ففي الوقت الذي نتكلم فيه نحن في العراق عن طمأنة دول الشرق والغرب عن الوضع السياسي في العراق كان الساسة البريطانيون يتكلمون عن «طمأنة الأسواق» ويعنون بها طمأنة الأسواق المالية حتى لا تدخل البلاد في أزمة مالية واقتصادية نتيجة غياب الاستقرار والتجاذبات وتقلبات المشهد السياسي، بخاصة بعد تسبب تأخر تشكيل الحكومة في تراجع العملة وتذبذب الأسواق. إن الهاجس الأقوى في المشهد هو الهاجس الاقتصادي، وهو هاجس عقلاني موضوعي حقيقي فيه مصلحة الجميع يختلف عن الهواجس التي تعبث بالعملية السياسية في العراق وهي هواجس وهمية مصطنعة لا يمكن أن تكون سبيلاً لتحقيق أي شكل من أشكال المصلحة العامة. السلطة الرابعة بدورها أدت ما عليها في هذه التجربة الديموقراطية الناضجة، وعبر الصحافيون والمعلقون السياسيون بكتاباتهم وتقاريرهم عن حالة الاستياء الشعبي نتيجة تأخر تشكيل الحكومة خمسة أيام فقط! وكانت ضغوط الصحافة الحرة عاملاً مهماً في تحريك عملية المفاوضات بين الأحزاب الثلاثة الفائزة حتى اضطر المحافظون والديموقراطيون الأحرار إلى تقديم تنازلات كبيرة متبادلة أفضت إلى التحول بالعلاقة بين الطرفين من الخصومة الأيديولوجية إلى الشراكة الحكومية التي انبثقت عن ائتلاف سياسي بدا فريداً بكل المقاييس. لقد فاز المحافظون على العمال من دون غالبية حاسمة، وهو أمر مماثل لما حصل لكتلة «العراقية» في العراق، لكن لا العمال ولا الديموقراطيون الأحرار حاولوا الالتفاف على استحقاق المحافظين الانتخابي كما حصل ويحصل ل «العراقية» حتى هذه اللحظة، وإنما اعترفوا بفوز المحافظين أولاً وتركوا لهم حرية التحالف ثانياً، ملتزمين بروح الديموقراطية ومحترمين الاستحقاق الانتخابي. وهو ما لم يحصل في العراق حتى الآن مع الأسف. لكن الفرصة ما زالت سانحة للجميع من أجل تصويب المسار وترشيد العملية السياسية من خلال إعادة إطلاق العملية التفاوضية على أساس احترام الاستحقاق الانتخابي والدستوري وعدم توجيه البوصلة التحالفية لأي كتلة باتجاه القفز على حق «العراقية» في أن تتولى زمام المبادرة وبناء تحالفات لتشكيل الحكومة المقبلة على أسس الشراكة والتضامن. ولتحقيق ذلك ينبغي التحلي بأعلى درجات نكران الذات والتفكير الواقعي والرؤية العملية كما فعل الساسة البريطانيون من مختلف المشارب الأيديولوجية وعلى اختلاف مصالحهم السياسية عندما رفعوا شعار «المصلحة الوطنية أولاً» فعبروا ببلدهم إلى بر الأمان لينالوا جميعاً احترام شعبهم وإعجاب العالم وتقدير التاريخ. ربما يقول البعض إن عمر الديموقراطية في بريطانيا هو أكثر من خمسة قرون من الزمن اكتسب فيها الساسة خبرة وتجربة زادتا سلوكهم رقياً وتحضراً وعقلانية، فيما الديموقراطية في العراق وليدة ناشئة وما زال متعاطوها في مرحلة التعلم واكتساب المهارات من طريق التجربة والخطأ. لكن الحقيقة التي يجب عدم إغفالها هي أن عمر هذا البلد يزيد على خمسة آلاف سنة وكان على مر التاريخ خير مدرسة علمت البشرية أسس القانون ووضعت المسلات الحقوقية وكانت أرضنا مهداً للحضارات استضاءت شعوب عديدة بأنوارها وإشعاعات ثقافتها. خلال قرون من الزمن، ذاق البريطانيون مرارات وسفكت دماء وعاشوا مخاضات سياسية واجتماعية حتى وصلوا إلى هذا المستوى من التحضر السياسي، فلماذا نصر نحن العراقيين على تجرع كأس التجربة المر في الوقت الذي نعيش فيه عصراً وظرفاً يتيحان لنا الاستفادة من تجارب الآخرين والتعلم منها والبناء عليها؟! إن معالم التجربة البريطانية الماثلة تصلح أن تكون مشروعاً نطرحه على شركائنا في العملية السياسية أملاً في إعادة النظر في المواقف ومراجعة المقاربات بهدف ترشيد اتجاه تجربتنا الديموقراطية والتأسيس لعراق المستقبل الذي يحتضن الجميع بالقسط والعدل، من خلال الاستفادة من تجارب دول متقدمة في عالمنا المعاصر، تطور فيها نموذج إدارة التحالفات السياسية بما يرشد الصراع ويحجم الخصومة ويحقق المصلحة الوطنية العليا. ولكن هل بالإمكان أن تتحقق هذه الاستفادة؟ يبقى السؤال قائماً ويحتاج إلى جواب سريع. * نائب رئيس جمهورية العراق