ما من كلمة - مقولة لاكتها الألسن، بدراية أو من دونها، مثل كلمة «ايديولوجيا»، حتى تسربلت بالغموض. وما من حقل خضع لمبضع التحليل، والنقد، وإعادة النظر، ك «الابستمولوجيا» (علم المعرفة)، حتى بات مشوباً بتعقيد يرعب الدارس المبتدئ. ولنا أن نتخيل مبلغ التعقيد واللبس والإبهام عند جمع الاثنين. بين رحى هذه المحنة زج «مركز دراسات الوحدة العربية» ثلة من الباحثين في فروع المعرفة الحديثة (فلسفة، علم اجتماع، تاريخ، علوم سياسية، اقتصاد)، مشرقاً وغرباً، للنظر والتفكير، في رحلة مفصلة، ممتعة، ومنكهة على مدى أيام ثلاثة. الافتتان بالايديولوجيا لا يقل شيوعاً عن الحذر منها، تارة هي القرين الضروري للفعل (العقل العملي)، وطوراً هي اليوتوبيا الزائفة، عدوة العقل. لم تكن ثمة هتافات، بل تأمل هادئ، مشوب في لحظات بحزن شفيف. ولكن علم المعرفة (الابستمولوجيا) بدوره في تاريخه التطوري، أو في النقاشات البيروتية، في حال مماثل. لعل أكثر فكرة تكررت: إن الانفصال بين المعرفي والايديولوجي، انفصال مفهومي، مثل انفصال حقل السياسة عن حقل علم الاجتماع، في العقل النظري، ولكن الانفصال يذوب، ويحل التداخل في العقل العملي، في الممارسة والنظر فيها. فما من معرفة تعيش أو تنتج في فضاء منفصل عن بنى المجتمع والسياسة والفكر القائمة. وقد تناول مفكرون هذه المسألة، المرة تلو الأخرى، كان آخرها، وليس أخيرها، هو تحليلات ميشيل فوكو، التي ترى الى نظم المعرفة (حتى الطبي منها) على انها ليست معرفية خالصة، بل جزء من بنى نظم التحكم المجتمعي. فهذه المعرفة تنتج في مؤسسات، فتولد سلطة العقل (طبيب الأمراض النفسية مثلاً) على اللاعقل (الجنون) بتوسط المصحات العقلية ومؤسسات الطب. ولعل علم الاجتماع نفسه أكثر من اشتغل على نظم المعرفة، سواء بالاعتماد على الفلسفة، أو بصورة مستقلة عنها. كما انه اشتغل على نفسه كموضوع، باحثاً في إمكانيات المعرفة الدقيقة داخل هذا الحقل، وهي لا تزال على هذه الحال منذ أن أرسى كيتله اللبنة الأولى لهذا العلم (بكتابه: الفيزياء الاجتماعية) ورسخه أوغست كونت معمداً إياه باسمه: سوسيولوجيا. علم الاجتماع في الثقافة العربية طفل يحبو، متلق شأنه شأن سائر حقول الثقافة (باستثناء الفقه بفضل ثباته وسكونه الغالب). وعمره لا يزيد على نصف قرن إلا بالكاد. وسيرة حياته، هي بمعنى من المعاني، حكاية التمايز والتداخل بين الايديولوجيا والمعرفة. ولعل علي الوردي كان أشد من عانى، وأوضح من أفصح. ومحنته هي محنة الثقافة الحديثة بعامة، فهي متقدمة على مجتمعها، ويتعين عليها أن تبحث عن سبل لعبور البرزخ. حين يتأمل المرء تأملاته في علم الاجتماع، وفي المجتمع العراقي (والجوار الأوسع) يتلمس عنده ذلك النكد المعاند. تعلم الوردي أن نقطة المقدمة المنهجية لعلم الاجتماع الأميركي هي الفرد، وأن المقدمة المنطقية لعلم الاجتماع الأوروبي (وبخاصة الفرنسي والألماني) هي المجتمع (الصناعي الحديث المنتظم في أمة - دولة متجانسة الثقافة، أو هكذا يزعم). وحين شرع في استخدام معارفه الحديثة في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، لم يجد «الفرد». فالمجتمع زراعي، مراتبي، تشكل الأسرة والقبيلة، وجماعات الإشراف، والجلبية، أي نظام القرابة، المراتبي/ الهرمي، لحمته وسداه. وحين حاول المقاربة من الوجهة الأوروبية، أي المجتمع- الأمة الحديث، لم يكن العراق قد بدأ هذا التحول إلا حديثاً، ولم يكن يقترب بعد من «النموذج النظري»، أو، وهذا الأصح، أن النموذج النظري لم يكن ينطبق عليه. بدا الوردي في حيرة من أمره، مثل ميكانيكي حديث يحمل عدة من المفكات أمام جمل صحراوي، أو مثل بدوي يحمل هراوة بدل مفك أمام جهاز آلي حديث. وابتكر الوردي مخرجاً فريداً لم يبارِه فيه أحد. انتقل فوراً الى التاريخ. وما كتابه «لمحات اجتماعية» سوى سرد تاريخي، يقترب فيه، أحياناً، من لغة وأسلوب القاص. وعزز هذا الانتقال بالتماس ابن خلدون، وصراعه في البداوة والحضارة. بل شغف، لفترة، بفكرة سكون المجتمع (قوله بوجود «طبيعة» أي جوهر ثابت للمجتمع العراقي)، وبفكرة «الخصوصية» المطلقة والحاجة لعلم اجتماع عربي، على غرار قول الأصوليين بالحاجة الى اقتصاد إسلامي، وعلم معرفة إسلامي، وفيزياء إسلامية، وهي أصداء لفكرة علم جمال ماركسي، وعلم جمال بعثي. ومن دون إنكار السمات الخاصة لأي مجتمع، في الماضي والحاضر، فان تعميم مبدأ الخصوصية المطلقة، سخف معرفي، نظري وعملي. وجد الوردي مبتغاه في المنهج الوصفي الأميركي، واكتشف، عبر الوثائق التاريخية التي درسها، مسار التحول البطيء في مجتمعه، ثم جاءته المدرسة الألمانية (وبخاصة فرديناند كون وكارل مانهايم)، ليعمق ادراكه لمسار الانتقال من الجماعات الصغيرة، الى المجتمع الكبير أي الحديث، القائم على الوطنية، لا العصبيات القديمة المجزأة. ولم يعد يقارب فكرة «الطبيعة» الثابتة كما لم يعد يغازل فكرة إنشاء علم اجتماع خاص. فقد أدرك أن العلوم كلها لا تقدم سوى أدوات، وأن إحلال النظرية محل الواقع المدروس، بدل اكتشاف الفارق بينهما، هو المزلق الايديولوجي الأكبر، كالقول بوجود أمة لم تتبلور بعد، أو بوجود طبقات اجتماعية، على الغرار الكلاسيكي الأوروبي، من دون أن يكون لها وجود فعلي في الإطار المحلي، شأن مخيلة البدائي التي تصطنع لحاملها السعلاة و «الطنطل»، أشباح العقل الأولي، التي يعاد إنتاجها بمقولات حديثة. انفتح الوردي على سائر نظريات علم الاجتماع الحديث في مجتمع يحول النظرية الى معتقد ديني، ومضى في البحث وسط مؤسسات خاضعة لجبروت الدولة، وسعى الى الخروج على قواعد الفكر المتزمت (يساراً)، والى مواجهة الفكر المتحجر (يميناً). ولعل قناعته بالديموقراطية (الليبرالية السياسية المرفوضة يميناً ويساراً آنذاك) تبدو بمثابة موقف أو خيار ايديولوجي مسبق. بودي أن أغامر بالقول إن وصوله الى هذه القناعة جاء من منطلق عقلي صرف، اعتقاده بأن المجتمع المغلق (الزراعي، المتخلف، العربي) لا يسمح بإمكانية المعرفة. وأن انفتاح النظام السياسي يمكن أن يعوض عن انغلاق المجتمع. لا ندري ما سيقول علي الوردي لو صحا على حالنا اليوم، مع عودة العشائرية، واستشراء اللاعقلانية المسربلة بالمقدس، والنكوص الثقافي المريع. لعله يعود الى كتبه ودفاتر ملاحظاته، ويقول إن الانغلاق المجتمعي محال، إن لم يكن لشيء، فعلى الأقل لوجود وسائل اتصال شاملة، متعددة. وإن اقتران ذلك بالانفتاح القسري للنظام السياسي، على رثاثته البينة، لن يسمح بانغلاق سبل المعرفة. لعلها خطوة الى أمام بالقياس الى خطوات عملاقة الى الوراء. ولعل «طريقه الثالث» للخروج من اسار التحيزات يحمل وعداً.