رئاسة الحكومة في العراق للشيعة، وليست لشيعي، هذا ما تؤشر إليه مسارعة الائتلافين الشيعيين (دولة القانون والائتلاف الوطني) الى الاندماج، على رغم شحنة عدم الانسجام الهائلة التي تسود العلاقة بينهما، ناهيك عن حال التنازع التي يشهدها كل ائتلاف منهما بمفرده. تقدم لائحة العراقية بقيادة اياد علاوي في الانتخابات أزال العوائق من أمام اندماج ائتلافي الشيعة في العراق، على رغم ان علاوي تربطه بعدد من رموز الائتلاف الوطني علاقات تفوق تلك التي تربط المالكي بهم، وهي ليست علاقات شخصية انما أيضاً سياسية. لكن جوهر السياسة اليوم في العراق في مكان آخر تماماً، فهي قاتلة لأي جوهر غير طائفي وغير مذهبي للعلاقات: ذاك ان علاوي فاز على رأس تكتل سني، وشيعيته بهذا المعنى تبقى على هامش هويته. ويبدو أن الأحزاب الدينية أعطت مضموناً واحداً للتشيع يتمثل في صدور من يسعى اليه عن حزب ديني، وأنه من ساوره لبس عمامة في حقبة ما، وهو اذا تخلى عنها، أبقى على لحية خفيفة وخاتم فضي وظيفتهما تذكير «المؤمنين» بأنه جاهز لاستعادة العمامة في أي لحظة يحتاج فيها الى ذلك. حين يستمع المرء الى سياسيين من الائتلافين الشيعيين العراقيين يشعر بأن الهوة السحيقة التي تفصلهما لا يمكن ردمها في اجتماع في طهران، وان المصالح متباعدة الى حد يصعب معه الاعتقاد أن الفارق بين رئيس حكومة شيعي ورئيس حكومة من الشيعة سيعيد وصل من باعدت بينهم وقائع وأفكار واتهامات. المذهب هو الجوهر الأبرز في العراق اليوم، فالاندماج بين تكتلي الشيعة حرم السياسة من احتمالات أخرى. فقد أُدرجت الأسماء التي ضمت المندمجين على نحو يُشعر المرء بقشعريرة من ذلك النوع الذي يسبق الغثيان. فأن تضم لائحة المؤتلفين اسمين سبق ان جزم صاحب الاسم الأول ان صاحب الاسم الثاني شارك بيده في عملية تصفية جسدية لصديق له، وعلى رغم ذلك عادا وقبلا باندراجه معه في ائتلاف واحد، وان تضم الكتلة الوليدة سياسيين تبادلا اتهامات بسرقة مصرف، فهذا كله من باب القول والاعتقاد ان اعتبار «الرئاسة للشيعة وليس لشيعي عابر» متقدم على أي اعتبار سياسي أو أخلاقي. لكن على رغم كل ذلك لا يبدو ان اندماج الائتلافين كافٍ، فنحن اليوم بانتظار «لجنة حكماء» من الائتلاف الوليد تُقر آلية لاختيار المرشح لرئاسة الحكومة، وبعد ذلك ستخوض اللجنة مفاوضات صعبة يتمخض عنها ترشيح الرئيس العتيد الذي سيعود لخوض مفاوضات عسيرة بدورها مع الكتل الأخرى يتبادل خلالها المصالح والوعود ويُبدد المخاوف والظنون، لننتقل بعدها الى مجلس النواب ثم الى مفاوضات التشكيلة الحكومية التي سيستغرق تأليفها وقتاً لا يقل عن الأوقات التي بُددت في المراحل الأولى. وكل هذا الوقت المُبدد والذي دفع وسيدفع العراقيون ثمنه دماً، جراء الفراغ السياسي الذي خلف فراغاً أمنياً، هو في سبيل معادلة «الرئاسة للشيعة وليس لشيعي»، لكنه أيضاً مؤشر مخيف على ان الطبقة السياسية الجديدة في عراق ما بعد صدام حسين هي بدورها قليلة الحساسية حيال الدم المُسال في شوارع بغداد. واذا كانت لُحمة المذهب متقدمة على كل ما عداها من اعتبارات، وهذه ليست حال العراق لوحده، فذلك يدفع المرء الى التفكير بأن الفارق بين الانتحاري الذي يُفجر نفسه في بغداد ليقتل عابرين لا ناقة لهم ولا جمل بكل ما يجرى، مدفوعاً بأفكار التكفير، وبين السياسي الذي يمنع عقد عملية سياسية يؤدي منعه لها الى سقوط أبرياء، ليس واسعاً، وهو يشبه الفارق الطفيف بين القتل وبين التسبب بالقتل، لا سيما اذا كان الأمران يجريان في ظل معرفة بنتائجهما. هذا في الدلالة الأمنية المباشرة للاندماج وبالتالي للتأجيل، أما في الدلالة السياسية فإن الاندماج وان كان تقديماً لمصلحة جماعة عراقية على مصالح جماعات عراقية أخرى، فهو قبل ذلك تقديم لمصلحة اقليمية على المصلحة العراقية، وبالتالي فإن انكفاء الوازع الوطني الى وازع مذهبي والذي يترافق أين ما حصل مع تماهٍ مع أطراف خارج الحدود، سيضعضع مستقبل التجربة الجديدة وسيُبقي على العراق ساحة لتبادل الرسائل الإقليمية التي لن يكون لاعتبار حياة الناس فيه قيمة تذكر.