طغى الماضي على حفلة افتتاح ملتقى النص، الذي ينظمه نادي جدة الأدبي، مساء أول من أمس، وساد فعل التذكر وحامت الذكريات كثيراً حول جنبات القاعة، كأنما موضوع الملتقى والمشاركون فيه إضافة إلى الشخصية المكرمة، كلهم كانوا جزءاً من الماضي، وكأنما كان ذلك الماضي هو كل الحركة الثقافية في مجدها وأفولها، في فوضاها وألقها، في تميزها وعشوائيتها. ولا عجب أن يؤكد شخصية الملتقى الأديب الرائد عبدالفتاح أبومدين في كلمته، التي أصغى إليها الحضور كثيراً، أهمية نادي جدة الأدبي في ماضيه، وافتقاده الدكتور عبدالله الغذامي، متمنياً عليه أن يعود إلى ساحة النزال، أي إلى ماضي الحركة الثقافية المجيد. وعبّر أبومدين عن اعتزازه وتأثره بمشاعر الحب والعرفان التي أحاطت به في ليلة تكريمه، هو الذي سبق له أن كرم العديد من الشخصيات الثقافية المهمة. أبومدين أيضاً لم ينسَ رفاقه في النادي، من المثقفين والمثقفات، مثل: عبدالمحسن القحطاني، ومعجب العدواني، وعالي القرشي، وأبوبكر باقادر، وعبدالله المعطاني، وحسن النعمي وعاصم حمدان، ويوسف العارف، ولمياء باعشن وأميرة كشغري وفاطمة الياس، ومحمد علي قدس، وممدوح فهمي وآخرين، ولا أنسى الروافد العاملة الجادة الرفاق عبدالله قايد ومصطفى عبدون». وفي حفلة الافتتاح التي شهدت حضور كبار المثقفين والأدباء والمهتمين برصد تطورات الحركة الأدبية والثقافية السعودية، إضافة إلى المشرف العام على وكالة الوزارة للشؤون الثقافية سعود الحازمي، قال أبومدين: «إن قلة المال المقرر للنادي والأندية الأخرى لا تفي بالطموح، ولا بتقدير الكتّاب الذين يملأون صفحات دوريات النادي وكذلك طباعتها وتوزيعها! ولعل الطموح أكبر وسيلة وأقوى من الجعل الذي في مجموعه لا يوازي مكافأة لاعب كرة قدم! والمعرفة غالية كقيمة في أي بلد طامح! ولعل القول القديم: فلان أدركته حرفة الأدب فقيل أدركه الفقر». واستحضر أبومدين أبياتاً شعرية للبحتري، كتعبير عن الأيام التي قضاها بين كيان النادي، والتي قال فيها: «ذَكّرْتَنيهمُ الخُطُوبُ التّوَالي وَلَقَدْ تُذكِرُ الخُطوبُ وَتُنسيِ». ومما شهدته حفلة الافتتاح، منح مجلس إدارة «أدبي جدة» العضوية الشرفية للشيخ سعيد العنقري، «الذي قدم دعماً لا محدوداً لإنجاح عقد ملتقى قراءة النص»، بحضور عدد كبير من المثقفين والأدباء. واستمع الحضور إلى قصيدة للشاعر الشاب عبدالله العنزي عنوانها «عش الجراح»، وشاهدوا فيلماً وثائقياً سلط الضوء على تفاصيل ملتقى النص منذ انطلاقته الأولى، والقضايا التي أثارها خلال دوراته المتعاقبة. وفي حفلة تدشين النسخة ال14 من الملتقى وعنوانها «الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية بين عامي 1400 -1410: قراءة وتقويم»، قال رئيس نادي جدة الأدبي الدكتور عبدالله السلمي إن الملتقى يأخذ فكرته وتميزه من التركيز على مجال قراءة النص قراءة نقدية عميقة، من أجل استكشاف شروط الخطاب النقدي: «إن النادي يدرك أن الحركة التحديثية للنقد لن تتوقف ما دامت مساحاتها النصية مزدانة بالإبداع، وما دامت وشائج التواصل بين النقاد العرب قائمة»، مشدداً على ضرورة الحوار بين الفكر النقدي الوافد والفكر النقدي المحلي السائد، لتوضيح ما بينهما من اختلاف أو تطابق». وأوضح السلمي أن عنوان النسخة الحالية من الملتقى، «يسلط الضوء على مرحلة ثقافية مهمة في المكون الأدبي السعودي»، معتبراً أنها من أكثر المراحل جدلاً وتجاذباً، «بهدف النظر إليها بعد أن وضعت الأفكار أوزارها، وانكشف غبارها أو قتامها». وبدا من كلمته، كأنما صراع الثمانينات الحداثية وحروبها وضعت أخيراً أوزارها، ما أتاح الفرصة أخيراً لتأملها وإعادة النظر في الظروف التي رافقتها والمنعطفات الخطرة التي عاشتها. وفي الندوة التي انطلقت عقب حفلة الافتتاح عن الأديب عبدالفتاح أبومدين وترأسها الدكتور عبدالله المعطاني تحدث كل من الناقد الدكتور حسن الهويمل والأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية الدكتور عبدالعزيز السبيل، والناقد الدكتور سعيد السريحي، مؤكدين «فضل أبومدين في صياغة سياسات نادي جدة الأدبي إبان ترؤسه»، مشيرين إلى أنه عمل على تنويع منتجات النادي وأدواره، من إقامة المحاضرات والندوات والمؤتمرات، إلى إصدار الأعمال المطبوعة والدوريات المتخصصة. أما كلمة المثقفين التي ألقاها نيابة عنهم رئيس نادي القصيم الأدبي السابق الدكتور حسن الهويمل، فغلب عليها أيضاً الحنين إلى أيام مضت وفترة زمنية تمنى أن تعود. وقال الهويمل: «لقد جايلت وجادلت صفوة الصفوة من أدباء العالم العربي، ومفكريه، ممن قضى نحبه وممن ينتظر. وكان لهم الفضل كله في إثراء الحركة الأدبية في المملكة اتساعاً وعمقاً، ونادي جدة الثقافي الذي غمرتني أفضاله لما يزل يحتفظ بالتألق والتفوق ويمتلك الجسارة في الريادة واكتشاف المجاهيل بمبادراته، وخصوصاً في ما يتعلق بمناهج النقد الحديث». وأضاف: «هذا الملتقى يفوق أسلافه بالوفاء لبناته وحين لا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل، فإن النادي يُحرز قصب السبق بوفائه لواحد من بُناته، في زمن التهميش، والتناسي. وتكريم علم من أعلام الأدب، ومجاهد من عمالقة الحركة الأدبية في المملكة يعيدني إلى زمن أحن إلى ذكرياته العذاب. فقبل ستة وخمسين عاماً، كانت بدايتي مع الشغب، والمناكفات الأدبية ولم يتسع لها إلا صدر الأستاذ/ أبووديع، عبدالفتاح أبومدين»، لافتاً إلى أن أبومدين تعب وهو «يرعى ويواكب هذا الحراك، وهو حين ترجل عن جواده تلقى الراية أبناء جلا، وطُلاَّع الثنايا، ممن أخذوها بحقها ورعوها حق رعايتها».