على الوجود العربي في برلين يمكن التأسيس... فكرة ترددت كثيراً وبأشكال مختلفة أثناء الحوارات العفوية التي كانت تجري في أروقة مهرجان برلين السينمائي بين ضيوفه من نقاد وصحافيين، منتجين وغيرهم. فلأول مرة يكون للسينما العربية هذا الحضور ليس على مستوى عدد الأفلام المشاركة فحسب، بل على مستوى الفعاليات المصاحبة لها؛ مشاركات في السوق، عقد لقاءات مع منتجين عالميين وعرب، وتنظيم دعوات للحضور. بحيث بدا للحضور بأن كل هذا يمكن أن يؤسس نواة «لوبي» سينمائي يوفره «البرليناله»، ولابد من استثماره وعدم تضييع الفرصة فليس كل يوم يفتح مهرجان عالمي أبوابه أمامنا بهذا الاتساع. وعليه كانت الحوارات تفضي في النهاية للسؤال عن نوع «البضاعة» المعروضة، فهي من يرسخ في ذهن المشاهد لهذه السينما أو تلك. وفي هذا العام ثمة مؤشرات جيدة إلى مشاركات تحاول قول شيء بلغة سينمائية صرفة ربما الفيلم التونسي «نحبك هادي» حاول توصيلها بوضوح. الثورة في المشهد الخلفي عدا عن عبارات سريعة ترد على لسان بطله «هادي» يصف فيها الإحساس الغريب الذي شعر به أثناء «الربيع» التونسي والروح التضامنية والسماحة التي سادت وقتها ولم يألفها من قبل، ظلت حكاية الفيلم في اطارها الفردي، الشخصاني وعليها اشتغل محمد بن عطية متجاوزاً اغواء الدخول المباشر في الثورة ومآلاتها. أراد نقل لحظة شغف بطله بامرأة تعرّف عليها وأقام معها علاقة عابرة ما كان لها أن تستمر طويلاً لتعقيد في داخله ولتشابك علاقات أسرية لم تتوافر له الطاقة على تجاوزها والمضي في مشواره الرومنسي حتى نهايته. جاءت خطواته الجريئة والمفاجئة بفعل قوة الحب لا التعود على سلوك تمردي مغذى طويلاً، لهذا وجد نفسه أمام أسئلة صعبة سرعان ما شدته نحو بيئته الحاضنة المؤثرة بقوة في تكوينه النفسي. على قرار هادي برفض زواجه من شابة خطبتها له والدته، بنى محمد بن عطية معمار نصه السينمائي وعبره أبرز ملامح الشخصيات ذات الصلة المباشرة في قراره. فسلوك الأم يعبر عن سلطوية «انثوية» مزعزعة بحكم التكوين الاجتماعي ال «الذكوري» السائد هي التي تريد لهذا تقوية مركزها بقوة نفوذ «المصاهرة» الجديدة. وتريد أيضاً بها ترميم بناء عائلتها المفكك بسببها وبسبب عوامل خارجية مثل الهجرة حيث ابنها الأكبر يعيش في فرنسا، وعليها من دون ان تعلن ذلك التوافق وبسرعة مع السياق الاجتماعي السائد بإخضاع ابنها «اللامبالي» كلياً لها، وتمتين ركن نفسي هي بأشد الحاجة اليه بعد خسارتها «العملية» لابنها الأكبر المقرب اليها. تشكلت شخصيات «نحبك هادي» عبر مسار هادئ فيه ديناميكية داخلية جعلت من علاقة «هادي» ب «ريم» صورة لعلاقات موجودة يحرص الجميع على ابقائها في اطارها العابر السريع المرضى عنه شرط عدم المضي بها نحو نهايات تتعارض مع مصالح كل الأطراف وهذا ما عقد من وضع الشاب حين بدا أنه يريد وضع نهاية لكل «التقاليد» والتحكم السلطوي «بثورة» فردية غير أنه تراجع عنها في اللحظة الحاسمة وعاد عن قراره في الذهاب مع الفتاة التي أحبها ووجد فيها سوية وتوافقاً لطالما انحرم منه وعاش في كنف علاقات أسرية كاذبة. هل يفسر هذا وبطريقة ما سلوك «الثورة» التي توقفت عند اللحظة التي كان عليها المضي في مسارها النهائي؟ ربما يمكن إسقاط هذا التحليل كما يمكن في الوقت نفسه استبعاده، وهنا تكمن حلاوة نص بن عطية فهو مفتوح على تأويلات متعددة ويسمح بقراءات مختلفة ويقبل في النهاية على التعامل معه ببساطة تقول؛ ان الحكاية برمتها عبارة عن حتوتة حول هادي وريم! شخصيتين توافقتا في ظل علاقات اجتماعية لا تسمح بجعلهما نموذجاً عادياً، يمكن لهما العيش بسوية فكل ما يحيط بهما متوتر، غير مستقر مفتوح على احتمالات دراماتيكية تضع مصير الأفراد جانباً فتغدو الحلول في النهاية «منفعية» وفي الأعم محبطة ومخيبة للآمال مثل تجربة هادي وزواجه الذي توقف وربما لن يتم لأن والد الخطيبة قد أعتقل لقربه من النظام السابق وهذا قد يدفع الأم لرسم خطة جديدة تضع مصلحتها فيها قبل كل المصالح وقبل كل ثورة، فيما سيضخع فيها ولدها «الصغير» لقوانين الحياة واستثناءاتها القليلة مثل علاقته العاطفية والجسدية العاصفة مع ريم ابنة البلد المتردد في خياراته بين انفتاح اجتماعي وبين انشداد لقيم مجتمعية تقليدية ربما هي أكثر رجعية من تلك التي انطلقت الثورة بسببها وأرادت التخلص منها، كما شاهدناها في تجربة بوسنية مختلفة الجغرافيا اشتركت مع التونسي في خيبة الآمال المرتجاة من التغيير. موت في سراييفو نص رائع للبوسني دانيس تانوفيتش يقرأ فيه تاريخ الصراع القومي في يوغسلافيا السابقة عبر حكاية حصرها في فندق «أوربا» الذي جعل منه ساحة تتفاعل فيها المواقف والأفكار حول ما جناه البوسنيون منذ استقلالهم وخيبات آمالهم في بناء دولة نموذجية يعيشون فيها بعيداً عن قريناتها الفاسدة من دول البلقان. في النهاية أراد القول إن كل أمراض التجربة اليوغسلافية انتقلت اليهم؛ الفساد واستغلال السلطة والتحكم التعسفي بمصائر الأفراد. وليجسدها على الشاشة لجأ الى أسلوب مختلف تماماً عن ذلك الذي اختاره لفيلمه السابق «فصل من حياة جامع خردة». اختار الروح الفكاهية السوداوية أسلوباً سردياً لنقل صراع تاريخي أمتد لقرون بين قوميات البلقان وليظهر النظرات المتباينة والمتعارضة من أبطاله، اقترح مجموعة مشاهد تنقل حوارات تجريها صحافية تلفزيونية بوسنية مع عدد من مؤرخين ومنظرين من جهات مختلفة المواقف والرؤى وعلى مقربة منها ترك «ضيف الدولة» برنار - هنري ليفي يحفظ نصه الذي جاء لإلقائه في محاضرة دعته الى تقديمها الحكومة البوسنية. سخر ليفي من الجانبين: من الإعلام وانحيازاته الفاقعة ومن المواقف الرنانة الدعائية لمفكرين تعاملوا مع التاريخ والصراع الدموي عن بعد وعاينوا المسألة بنظرة متعالية لا صلة لها بهواجس الشعب الحقيقية وغير معنية بما يعانيه من مشاكل اقتصادية سببها جشع المنتفعين من «الرأسمالية الوطنية». وعن هذا الجانب يعبر بوضوح الإضراب الذي كان يعد له عمال الفندق بعد أن أوقفت ادارته دفع رواتبهم منذ شهور. تصوير الفندق وطوابقه ككناية عن طبقية مجتمعية ناشئة في البوسنة، والتي لا تختلف عن طبيعة تلك التي كانت تمارسها السلطة اليوغسلافية بمسميات «أشتراكية» والمتعارضة في نفس الوقت مع الشعارات التي رفعها القوميون البوسنيون وتعكزوا عليها في انفصالهم عن «الأم اليوغسلافية» والتي في النهاية عززت انقساماً مجتمعياً حاداً تمثل في الشرخ الحاصل بين الصحافية التلفزيونية وحبيبها المبتعد عنها، الضيف الصربي، حامل السلاح الجاهز لل «دفاع» عن نفسه من غدر خونة أمته اليوغسلافية. كل هذا التعقيد التاريخي والسياسي قدمه «موت في سراييفو» بتلاعب ذكي اشتغل عليه تانوفيتش بحذاقة ليظهر موت بلاده سريرياً وعرض حالها اليوم بروح ساخرة وصلت بكل تجلياتها على الشاشة. فجاء عمله مزيجاً من رؤية نقدية لتاريخ المنطقة المفككة وصوراً رائعة لفندق فكك داخله وأظهر مقدار الزيف الذي فيه؛ فمن جهة ظهر بناءً حديثاً في حين كان داخله قديماً كل قسم فيه يعبر عن علاقات أجتماعية اقتصادية. فالقبو ظل ماخوراً لرجال المخابرات، في حين بقي قسم غسل الملابس ساحة عمالية، فيما خصصت قاعاته الواسعة وغرفه الفارهة لمديريه ولمنافعهم الخاصة. فندق حوّله يانوفيتش الى بوسنة اليوم، المخيبة لآمال سكانها بعد طول صراع مع جيرانها قدموا فيه تضحيات جساماً وخسروا فيه الكثير وبعد كل هذا جاء كالعادة السياسيون وأصحاب المشاريع الكبيرة واستحوذوا على خيراته ثم تركوهم خائفين لا يأتمنون على أرزاقهم ولا على مستقبل بلادهم التي ما كانوا يريدونها أن تكون مثل تلك التي انفصلوا عنها ولا عن تلك التي طالما استنكفوا من قساوة استغلال أغنيائها لفقرائها. صورة ملتبسة لبلد مر بظروف جد معقدة، واليوم يقوم مخرج لامع بقراءة فصول من تاريخه الحديث. وحاول المخرج الفرنسي - الجزائري، رشيد بوشارب قراءة ظاهرة «داعش» وامتداتها الأوروبية لكن ويا للخيبة! لم يفلح كثيراً فجاء «الطريق الى اسطنبول» مبتسراً يشكو قلة التمحيص العميق في الحقائق والبحث في أسباب بروز ظاهرة العنف «الديني» والركون بدلاً من ذلك الى العجالة في انجاز نص سينمائي يقبله السوق. خيبة أمل قريبة من تلك التي أصابتنا حين شاهدنا سابقاً، وفي نفس المهرجان، فيلمه السابق، «رجلان في المدينة». في النهاية، يمكن القول ان بوشارب قد قطع ثلث المسافة بين بروكسيل وإسطنبول لا أكثر وكان عليه ليكمل مشواره ان يشتغل أكثر على نص فيه امكانية كبيرة ليأتي عملاً سينمائياً قوياً وعميقاً، مثل الكثير من عروض الدورة الحالية التي تشي الأيام الأولى منها بقوة استثنائية قد تجعل منها واحدة من أفضل دورات «البرليناله».