شركة «داعش» وليس تنظيم «داعش». تلك هي الخلاصة الأهم التي كشفها «غوغل» عن عمل ذلك التنظيم الإرهابي في العوالم الافتراضيّة، وهي ما يحلو لوسائل الإعلام الغربي الكثيرة أن تطلق عليها تسمية «الخلافة الإلكترونيّة» Cyber Caliphate. بقول أوضح، هل بات التمدّد شبه الأسطوري ل «داعش» على حافة السقوط في هاوية الهزيمة، بعدما انكشفت عمليّاً الهرميّة التنظيميّة لذلك التنظيم على الانترنت، بفضل عمل دؤوب لأحد مؤسّسي شركة «غوغل» (صار اسمها الآن «ألفابيت» Alphabet)، جارد كوهن الذي يترأس حاليّاً قسم أفكار غوغل» Google Ideas. إذا صح التوصيف التفصيلي الذي قدّمه كوهن عن وجود «دولة الخلافة» على الانترنت، هل تكون «شركة داعش» على وشك الإفلاس؟ في 2014، حلّ كتابه «العصر الرقمي الجديد» New Digital Age في صدارة الأكثر مبيعاً في العالم، بل الأكثر ترجمة أيضاً، ويشمل ذلك اللغة العربيّة. لكن شهرة كوهن في العالم العربي تفوق كثيراً ذلك الكتاب الذي ألّفه مع إريك شميدت، رئيس «ألفابيت» حاضراً (وقبلها «غوغل»)، وكذلك كتابه «أطفال الجهاد» الذي لخّص فيه جولته في الشرق الأوسط، وظهرت فيه صور لافتة، كتلك التي تظهره مرتدياً كوفية وعقالاً مع عائلة فلاحين في «دير الزور» السوريّة. ومع تفجّر ثورات «الربيع العربي»، تفجّرت شهرة كوهن، وقفزت إلى الأذهان صفحات كتابه وصوره، إضافة إلى صداقته مع خبير المعلوماتيّة المصري وائل غنيم الذي ارتبط اسمه بذيوع استخدام «فايسبوك» في «ثورة 25 يناير». العودة إلى قمقم ال «ويب» وتذكيراً، قيل في تلك العلاقة «ما لم يقل مالك في الخمرة»، وفق شعر عربي شهير، خصوصاً أن كوهن يعمل أيضاً مستشاراً لدى «مجلس العلاقات الخارجيّة» الأميركي الذي يوصف بأنّه العقل المدبر لوزارة الخارجية الأميركيّة، بل المصنع الفعلي لسياسات تلك الوزارة. مع انفلات إرهاب تنظيم «داعش» في المشرق العربي، تبيّن سريعاً أن حضوره على الانترنت يشبه مارداً انفلت من القمقم. ولا يتسع المجال لذكر السيول الضخمة من الكتابات عن قوة حضور «داعش» على الانترنت، واستخدامها الشبكة أداة فضلى في إعلامها وتجنيد الشباب وجذب الفتيات و... وصولاً إلى سلسلة من التشريعات التي أقرّت في طول بلاد الغرب والشرق، لمواجهة الحضور الشبكي المتمدد من «داعش»، وهو أثار أيضاً سلاسل لا نهاية لها من الأسئلة والنقاشات. وقبل أسابيع قليلة، وجد اسم جارد كوهن رابطاً جديداً له في العالم العربي. إذ نشر سلسلة مقالات مطوّلة عن كيفيّة إطلاق نوع من «جهاد» مضاد، يتولى التصدي ل «داعش» على الشبكات الرقميّة. وفي تلك المقاربة، يركّز كوهن على استخدام «داعش» للانترنت أداة للتعبئة والحرب الإعلاميّة- النفسية، و«تجذير» التطرف الإسلامي لدى الشباب المسلم، بما في ذلك في الغرب. وتكفلت تلك الاستراتيجيّة الشبكيّة بنجاح «داعش» في حربه النفسية- الإعلامية على الشبكة، وتدفق آلاف الشباب الغربيّين إلى صفوف «داعش»، إضافة إلى تسهيل تحرّك «الذئاب المنفردة» و«الخلايا النائمة» والمجموعات التي تحركت لتضرب باريس مرتين في مطالع 2015 وخواتيمها! ويرى كوهن أن الخطوة الأولى في ذلك الجهاد الإلكتروني المضاد، تتمثّل في فهم العدو الداعشي. ويشير إلى أن الإجراءات ضد «داعش» تتسم بالسطحية، على غرار تلك الجهود المبذولة لملاحقة قرابة 50 ألف حساب على «تويتر» تساند ذلك التنظيم. لا جدوى من ذلك، لأن «داعش» يستخدم وسائل «شعبيّة» في التنظيم والتعبئة، على غرار «واتس آب» و «فليكر» و «كيك» و «زيلو» و «تيليغرام»، وهي لا تتطلب وجود مواقع أو صفحات قابلة للملاحقة والإغلاق، بل تعمل استناداً إلى شبكة من الأفراد الذين يبدون كأنهم مجرد مستخدمين، كما يستطيعون بسهولة الانسحاب من المشهد الرقمي، عندما يحسون بأي تدخّل غير مألوف في نشاطاتهم. وتشاركهم في ذلك الوجود «الملتبس»، مؤسّسات إعلاميّة متخصّصة لصنع مواد وسائط الإعلام المتعددة، خصوصاً أشرطة الفيديو التي أعطت «داعش» قوة وزخماً، ك «مؤسسة الفرقان». مآل «الخلافة الإلكترونيّة» يشدّد جارد كوهن على ضرورة فهم التركيب التنظيمي لعمل «داعش» على الانترنت. ويشير إلى أنه يفترق عن «القاعدة» الذي اعتمد على خلايا عنقودية شبه مستقلة. ويذكر أن ل «داعش» مركزاً قيادياً على أراضي سورية والعراق، يتولى صنع البرنامج الأيديولوجي، ثم يسند تنفيذه إلى شريحة من المديرين التنفيذيين الذين يوزّعونه على مجموعات من المناصرين والمقاتلين الإلكترونيّين. وتعمل تلك المجموعات على صنع أشرطة الفيديو والمواد الإعلاميّة، إضافة إلى انها تتولى الاتصال بزوجات المقاتلين وشباب يملكون مهارات ومعارف تقنية متنوّعة. ويرى كوهن أن ذلك التركيب يشبه تنظيم الشركات الكبرى في الغرب، مشيراً إلى وجود 4 طبقات فيه. ففي رأس الهرم، هناك قيادة مركزية للقتال الرقمي، وهي تعطي الأوامر وتدير العمليات وتتولى تدبير التمويل وتوزيعه. وتتميّز تلك القيادة بقلة عددها. ومثلاً، أثبت تتبع آلاف الصفحات على «تويتر» أنها تمد خيوطها لتترابط مع مجموعة صغيرة من الصفحات التي يمكن اعتبارها مركزاً لها، ما يشبه مشهدية شبكة العنكبوت... حرفياً. وبعبارة اخرى، تشبه رسالة القيادة المركزية ل «داعش» حجراً يلقى في الماء، فتنتقل تردداته من موجات صغيرة في مستوى معين، إلى أكبر في مستوى ثانٍ، ثم أكبر من ذلك في الثالث وهكذا دواليك. وفي الطبقة الثانية، هناك شريحة تشبه في عملها ما يقوم به المديرون التنفيذيون في الشركات الكبرى، ما يعني أن عددها ليس كبيراً أيضاً. وتلجأ إلى مناورات كثيرة. ففي العام 2014، عملت على الاستيلاء على «هاشتاغات» كانت متّصلة ب «كأس العالم لكرة القدم»، كي تحمّل عليها روابط لمواد إعلاميّة وتحريضيّة. وثبت أن بعض تلك الروابط اشترت حسابات بالأموال، إذ يمكن شراء ما يظهر كأنه جمهور من آلاف المتابعين على «تويتر» لصفحة معينة مقابل 10 دولارات. ويفيد ذلك في التعمية على الحساب- الأصل الذي انطلقت منه تلك ال «هاشتاغات». في غيبة البشر في الدائرة الثالثة من تنظيم «الخلافة الإلكترونيّة»، تأتي شريحة المناصرين ل «داعش». ولا يتلقى أولئك الأفراد أوامر من القيادة الإلكترونيّة للتنظيم، ولا يتّصلون مع مديريها أيضاً. لكنهم ينجذبون إلى أفكار «داعش»، فيصبحون جزءاً من غرف الدردشة ومواقع الحوار التي تروّج للتنظيم. وبعد فترة من الزمن، يصبح هؤلاء ناشطين، تصدر منهم مواد إلكترونيّة يصنعون كثيراً منها بأنفسهم، لتروّج للتنظيم وأيديولوجيته، إضافة إلى نشر أشرطته ومواد ال «ميلتي ميديا» التي يصنعها إعلامه الإلكتروني. ويرى كوهن أن العطب الأساسي في القتال الإلكتروني ضد «داعش» يتمثّل في أن القوانين لا تطاول أولئك الأفراد الذين ينشرون معتقدات متطرفة، بل يرى أن بداية الجهاد المضاد يكون فعليّاً في التصدي لذلك النوع من النشاط على الإنترنت. ولعل ما يحصل حاضراً من تركيز في التشريعات الغربيّة على مكافحة المواد التي تنشر الكراهية والمعتقدات المتطرفة، يحمل صدى وجهة نظر كوهن في ذلك الخصوص. دور الشيفرة الرقميّة في النهاية، تأتي الطبقة الرابعة من جيش «داعش» الإلكتروني، وهي خلو من البشر، وفق رؤية كوهن، لأنها تتألف من عشرات آلاف الحسابات التي تحمل أسماء وهمية ومستعارة لتنشر مواد إعلاميّة لمصلحة «داعش»، خصوصاً على «تويتر» و «فايسبوك». وفي ملمح فائق الأهمية، يشرح كوهن طريقة عمل تلك الحسابات التي يفوق عددها الآلاف المؤلّفة، مشيراً إلى أنها لا تقتضي سوى وجود قلّة قليلة من المتمرسين بالشيفرة الإلكترونيّة، ممن يستطيعون صنع برامج مؤتمتة تسمى «روبوتات الشبكة» («إنترنت بوتس» Internet Bots). وبصورة مؤتمتة، تدير تلك الروبوتات الصفحات، وتكرر نشر التغريدات وال «بوستات» على شبكات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى نشر المواد الإعلاميّة ل «داعش» عبر ال «سوشال ميديا» على مدار الساعة، بل ثانية بعد ثانية! ويشدّد كوهن على أن الجهاد الرقمي المضاد ل «داعش» يجب أن يركز أولاً على محاربة تلك الروبوتات التي لولا عملها لأمكن الوصول إلى كل متعاطف ومناصر ل «داعش» على الإنترنت، بل إخراس وحذف كل ما يبثه ذلك التنظيم عبر ال «سوشال ميديا» والشبكات الرقميّة كلها. كخلاصة، يدعو كوهن إلى جهاد إلكتروني مضاد، يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، بمعنى أنه يبدأ من الطبقة الرابعة غير البشرية، لأنها هي مكبّر الصوت الرئيسي الذي يضخّم حضور «داعش». وبعد ذلك، يغدو من المستطاع التركيز على الطبقة الثالثة، ما يترك الطبقتين القيادتين في ذلك التنظيم، من دون أذرع إلكترونيّة ولا مقاتلين رقميّين! الاتجاه شرقاً الاتجاه شرقاً. إنّه مصطلح شهير تماماً، إذ استخدمه الزعيم النازي أدولف هتلر لوصف حملته العسكريّة ضد الاتحاد السوفياتي في الحرب العالميّة الثانية. ويشتهر عن تلك الحملة التي حملت اسم «برباروسا» بأنّها كانت بداية النهاية للرايخ النازي الثالث. في سياق الحرب الإلكترونيّة بين «داعش» وأميركا، لوحظ أن موقع «تويتر» لم يلغِ الحسابات المتصلة بأشخاص يروّجون ل «داعش»، وفق تصريحات كثيرة لمسؤولي الموقع الشهير، مع التذكير بأن تلك الحسابات تدخل أحياناً في صمت مفاجئ، قبل أن تعاود نشاطها. في المقابل، بيّن «تويتر» أنه ألغى حسابات لأشخاص صدرت عنهم تهديدات ضد الموقع وموظّفيه، وهي حسابات قليلة العدد وتعود لأشخاص يروّجون ل «داعش». ومع سهولة استخدام الخليوي في بث التغريدات، يتميّز «تويتر» أيضاً بضآلة الشروط التي يفرضها على المحتوى، مقارنة بما يفعله «فايسبوك» مثلاً، ما جعل نشاط مناصري «داعش» عليه كبيراً. يصعب القول أنه خارج رقابة «الأخ الأكبر» الأميركي، وفق ما بيّنته وقائع الرقابة الإلكترونيّة الشاملة التي تمارسها «وكالة الأمن القومي» على الاتصالات كافة. ويبدو أن تلك الرقابة لها علاقة بالصمت المفاجئ الذي لم يستمر طويلاً، ل «داعش» على موقع «تويتر». وسرعان ما اتّضح أن الأمر كان متعلّقاً بتغيير في أسلوب التعامل مع «تويتر» في ظل الحرب على «داعش». في المقابل، أدار «داعش» وجهه صوب... الشرق، لكنه اتّجه إلى الصين، وليس روسيا كما فعل هتلر. واستفاد «داعش» من الشبكات الصينية، خصوصاً أن ذلك التنظيم لا يعدم أنصاراً هناك. ولاقى ذلك النشاط الكثير من العوائق التي تأتت من الرقابة اللصيقة للحكومة الصينية التي تخوض حرباً ضد تنظيمات لها طابع إسلاموي. وطريّ في الذاكرة أنه عقب إعلان «الخلافة الداعشيّة» في الموصل في مطالع حزيران (يونيو) 2014، عمدت الصين إلى اختراق حواسيب لمسؤولين أميركيين يتعاملون مع الشأنين العراقي والسوري. وحينذاك، راج أن الصين تهدف إلى جمع معلومات عن «داعش» من حواسيب المختصّين الأميركيين بشؤون ذلك التنظيم وخلافته. دور للشاشة البيضاء على رغم القوة التقنيّة الهائلة التي تملكها الولاياتالمتحدة في المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، إلا أن مجموعة من مواقع الإرهاب الإسلاموي استطاعت شن هجمات على الإنترنت ضد أميركا. من ناحية استراتيجية، يندرج الأمر ضمن أفق «الصراع اللامتكافئ» بين أميركا و «داعش» على الإنترنت (انظر «الحياة» في 7 شباط - فبراير 2016). وعلى غرار الصراعات اللامتكافئة، يتعلّق الأمر كثيراً بقدرات الأفراد في الجانب الأقل قوّة. لذا، يروّج «داعش» أنه جنّد قرصان كومبيوتر محترفاً، في سجّله أنه اخترق البريد الإلكتروني لرئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير. هل قرأ «داعش» جيّداً التفاصيل والمعطيات التي تكشّفت في سياق فضيحة تنصّت «وكالة الأمن القومي» الأميركية على الكرة الأرضيّة بأسرها، قبل أن يطلق العنان لأنصاره بالحديث عن قُرب تنصيب «خليفة إنترنتي» في الفضاء الافتراضي للإنترنت؟ ربما يجدر ب «داعش» أن يتذكر أيضاً مآل «صراع لا متكافئ» يشبهه كثيراً، هو ذاك الذي دار بين أميركا و «القاعدة». بقول مختصر، هل ينتظر «خليفة الإنترنت» مصير أسامة بن لادن؟ ربما يستطيع أنصار «داعش»، خصوصاً في أوقات الفراغ بين الذبح والسبي والاغتصاب والاستباحة والسلب، مشاهدة فيلم «زيرو دارك 30»، ليس لقيمته الفنيّة أو الوثائقيّة (هو مشكوك به في الأمرين)، بل لمجرد مزاولة ما ينبّه العقول ولا يسفك الدماء.