أحداث بشكيك الأخيرة التي أطاحت زعيم ثورة السوسن كرمان باكاييف، بعد خمس سنوات من إطاحته حكم أسكار آكييف أول رئيس قرغيزي بعد انفصال الجمهورية عن الاتحاد السوفياتي السابق عام 1992، قد تأتي بقيادات جديدة تحمل إرهاصات ثورة غير مسبوقة في المنطقة. ويؤسس التاريخ الجيوسياسي لقرغيزستان، ثاني أصغر جمهوريات تركستان الغربية الخمس، لنموذج فريد في سياق بلورة الهوية الوطنية. وفي الوقت الذي لعبت جدلية الرفض تجاه الاتحاد السوفياتي دوراً حاسماً في تأكيد الهوية القومية الإسلامية للقرغيز وفق شكلها الأخير، يصعب التنديد بمحاولات الدولة الروسية منذ احتلالها في منتصف القرن الثامن عشر، طمس الهوية الإسلامية، ذلك ان روسيا نفسها كانت مسؤولة مسؤولية كاملة عن دخول الإسلام قرغيزستان. وهناك معلومات مؤكدة عن انتماء القرغيز الى موطنهم على مرتفعات تيان شان ومرتفعات ألاس في قلب آسيا الوسطى، إلا غالبية المصادر تؤكد الانتماء العقائدي لهؤلاء الى «الشامانية»، حتى ضم روسيا المنطقة إلى سلطتها، عندما أرسلت إليهم وفوداً من العلماء المسلمين التتار لتعليمهم الإسلام. ويورد توماس أرنولد هذا الحدث في كتاب «تاريخ الدعوة» (ص 277)، باعتباره المثال الوحيد لحكومة مسيحية شاركت في نشر الإسلام في القرن الثامن عشر، لأنها اعتقدت أن القرغيز لشبههم الكبير بالتتار في الصفات الجسدية، هم مسلمون مثلهم، فاستعانت بالتتار لجذب القرغيز الثائرين، إلى سلطانها من خلال اعترافها بحقهم في الحرية الدينية. يشدد أرنولد بهذا الشأن: «يدين القرغيز بدخولهم الإسلام إلى هذه الحقيقة، وهي أن الروس الذين اعتبروهم مسلمين، أصروا على معاملتهم كما لو كانوا كذلك، وقد مُنحوا الأموال الضخمة لبناء المساجد، وأُرسل عدد كبير من العلماء لإنشاء المدارس وتعليم الأطفال مبادئ الإسلام...». كان القرغيز دخلوا التاريخ من بابه الواسع عام 840، حين جاء ذكرهم في المصادر الصينية المبكرة على أساس أنهم الشعب الذي هزم الويغور في منغوليا الداخلية وقضوا على مملكتهم هناك، وأقاموا أول دولة قرغيزية في منغوليا نملك بشأنها معلومات موثقة. واستمر حكمهم قرابة قرن حتى أطاحهم الخيطانيون الذين دحروهم إلى موطنهم السابق في أعلى نهر السيتي على مرتفعات سيبيريا عام 924. وعلى رغم ان ما جرى بعد ذلك للقرغيز ليس موثقاً، إلا اننا على علم بأن مجموعة من قبائل القرغيز بدأت بالهجرة منذ هذا التاريخ باتجاه المنطقة التي ستؤسس لموطنهم النهائي. ثم ستلحق بهم بقية القبائل التي ظلت في سيبيريا حتى القرن الخامس عشر، تاريخ استقرارهم على الجبال التي ستعرف منذ هذا التاريخ ببلاد القرغيز أو قرغيزستان. سيدخل القرغيز بعد هذه الفترة في إطار ولاءات سياسية لبعض من أسر المغول، إلا أنهم استمروا في استقلالية ثقافية ودينية حفظتها لهم المنطقة الجبلية الوعرة، وعنفوان تمردهم أمام محاولات الصهر أو الإرضاخ، وعلى رغم ضم أراضيهم في فترة لاحقة - عام 1750 - نظرياً إلى دائرة الحكم الصيني، وذلك حتى عام 1830 حيث ستنجح خانات خوقند في ربطهم بها. عام 1864 وبعد معاهدة بين الصين وروسيا، تم تخطيط الحدود بين القوتين على النحو الذي رجعت فيه معظم اراضي القرغيز إلى روسيا بعد أن ضمت خانات خوقند إلى سلطتها، الأمر الذي جعل من القرغيز مواطنين تابعين لحكم القيصر. وهو الحدث الذي قابله القرغيز بانتفاضات سجل منها التاريخ صحفاً يصعب عدها، والذي سيؤسس لجدلية تاريخية تدخلت بشكل عجائبي في بلورة الهوية الإسلامية لهذه القبائل التركية المنفلتة عن أي سيطرة. وعلى رغم وصول الإسلام إلى مناطق آسيا الوسطى بصورة مبكرة، تعود في واقع الأمر إلى بدايات الدعوة وفق ارتباط التجار العرب بهذه المناطق عبر طريق الحرير، أو طريق الفراء، إلا أن حضور الإسلام في هذه الفيافي البعيدة لم يكن بالسهولة التي يتصورها المسلم المتفائل، ولا بالسرعة التاريخية. بل ان بعض الأعراق استمر على ديانته القديمة لفترة غير قصيرة وحتى دخول المغول الإسلام، الذين بعد محاولتهم تدمير الأمة الإسلامية تحولوا إلى جزء أساسي من مكوناتها في عملية غير مسبوقة في تاريخ الحضارات، نموذجاً لدخول الغالب إلى دين المغلوب. إلا أن الخبراء في آسيا الوسطى لا يؤرخون لإسلام القرغيز إلا مع السيطرة النهائية لروسيا القيصرية على المنطقة حوالى عام 1876، والذي لم يتأكد إلا في القرن العشرين وعلى رغم دخول بعض من القرغيز الإسلام قبل هذا. ويشير هارتمان في كتابه عن إسلام الشرق إلى جهود أحد الصوفية في نشر الإسلام بين قبائل القرغيز خلال القرن السادس عشر: «واسمه إسحاق ولي، الذي وجد مجالاً لتحويل كثيرين إلى الدين الإسلامي - بحسب هارتمان - في كاشغر وياركند وخُتان. حيث قضى اثتني عشرة سنة ينشر هذا الدين بينهم. كما عنى أيضاً بنشر الإسلام بين أمم القرغيز والقازاق وهدم 18 هيكلاً للوثنيين». (نشرة برلين 1899 ص 202 - 203 المجلد الأول). إلا أن دخول القرغيز النهائي، الدين الإسلامي لم يتم إلا في بدايات القرن العشرين، ووفق معادلة لعبت فيها الدولة الروسية الدور الرئيس فيها كما أوضحنا. المدن المُضافة لا تسمح ارض القرغيز الجبلية بالمعنى الجغرافي للكلمة بتبلور أي نمط مدني للاستقرار، تبلغ مساحة قرغيزيا اليوم 198 ألفاً و500 كيلومتراً مربعاً منها 7100 كيلومتراً مربعاً من المياه و93 في المئة من الجبال. وتمثل في مجملها هضبة عالية تضم في شمالها سلاسل جبلية تمثل القسم الغربي من جبال تيان شان، في الجنوب جبال ألاس (ألايسكي) الشديدة الارتفاع، والقسم الأوسط سهل ينفتح في الغرب على سهول وسط آسيا. وهي الجغرافيا التي بقدر ما تسمح بالتفرد والقوة وعنفوان التعامل مع المكان، إلا أنها لا تقدم إمكان نشوء المدن المتصلة أو الحضارة المستقرة. ووفق هذا المعنى، وبعد التقسيم الوطني عام 1924، الذي بلورت فيه السلطات القيصرية منطقة ذات حكم ذاتي خاصة بالقرغيز، وهي كارا قرغيز، والتي سيصبح اسمها قرغيز، من دون كارا في العام التالي، وستكون جزءاً من روسيا عام 1926، ثم جزءاً من الاتحاد السوفياتي عشر سنوات بعد ذلك، ستضطر الحكومة الروسية الى إضافة بعض من الأراضي السهلية الى هذه المناطق الجبلية الوعرة، وتلحق بقرغيزيا مساحات مُضافة تسمح بتطوير العمارة المدنية. هكذا ألحقت بأرض القرغيز مدينة أوش إحدى أهم مدن وادي فرغانة القديمة، والتي تشكل مع جلال أباد وباكتين أهم مدن الجنوب. وكذلك واحة بشكيك في الشمال، التي صارت العاصمة، والتي سيطلق عليها في فترة ما اسم فرونزي نسبة إلى جنرال الجيش الأحمر الذي ولد فيها (1925 - 1990). وسنرى ان التغيرات الديموغرافية أو التأثيرات الأيديولوجية، إضافة إلى الإشكاليات الجيوبولوتيكية التي ستعصف بالمنطقة لاحقاً ستدور راحاها في هذه الأبعاد المحدودة، بينما ستستمر بقية المناطق (ما يزيد عن نسبة 93 في المئة من مساحة البلاد من الجبال) خارج تأثير العاصمة، بل في حضن تأثيرات تخص القرغيز وثقافتهم الإسلامية الصوفية التي اتخذت من هذه الجبال معاقل للرفض وحفظ الهوية. مزرعة الاتحاد السوفياتي وكان من الممكن ان يؤدي ضم قرغيزستان الى الاتحاد السوفياتي بشكل نهائي في بلورة خطوط جديدة للهوية القرغيزية، وتغيير التركيبة الديموغرافية على نحو ما أصاب بقية جمهوريات الاتحاد السابق، إلا أن القدر الخاص لهذا الشعب سيتدخل من جديد، وينحو بالقرغيز نحو تفرد مُضاف. إذ سيقع اختيار السلطة السوفياتية المركزية على مناطق قرغيزستان لتكون مزرعة للاتحاد السوفياتي. فخصصت أراضي البلد بكاملها تقريباً لتكون المزرعة التي تمد بقية مناطق الاتحاد بالإنتاج الحيواني والزراعي. وتؤكد دراسة ف. هوج عن «التوجهات الديموغرافية وتبلور الهوية الوطنية القرغيزية وعلاقتها مع الأقليات الأخرى في قرغيزستان»، الصادرة في بشكيك عام 2004، (ص 109 - 157): «كانت جمهورية قرغيزستان تمثل للاتحاد السوفياتي مساحة استراتيجية للزراعة والمنتوجات الرعوية. ولهذا السبب يمكن أن نفسر المحافظة على وجود القرغيز في القرى. ولماذا كان العيش في المناطق الرعوية والاشتغال بالزراعة وتربية الحيوانات أمراً مفروضاً على القرغيز». وهو ما جعل من هجرة الروس وغيرهم الى مناطق القرغيز، لا تسجل فقط أقل نسبة عما عرفته مناطق الجمهوريات السوفياتية الأخرى، بل ذهبت باتجاه عكسي، ففي تعداد عام 1956 كانت نسبة عدد القرغيز من المجموع الكلي للسكان 40.5 في المئة، ونسبة عدد الاوزبك 10.6 في المئة، والروس 30.2 في المئة، والطاجيك 0.7 في المئة. بينما في عام 1999 وسنجد هذه الأرقام تتغير تماماً بحيث إن نسبة القرغيز ستصبح 64.9 في المئة من السكان، أما نسبة الروس فستهبط الى 12.5 في المئة، والأوزبك 13.8 في المئة، والطاجيك 0.9 في المئة. «وهو الأمر الذي يفسر زيادة الولادات عند القرقيز من جهة ولكن تراجع الهجرة الروسية». وعلى رغم زيادة عدد الأوزبك من المسلمين، ويتمركزون بشكل أساسي في الجنوب، الا إن ذلك لم يؤثر سلباً في هوية القرغيز الإسلامية، على العكس كان رافداً له دوره المهم في دعم هذه الهوية نتيجة لقرب عهد القرغيز بالإسلام، واعتمادهم على جيرانهم بالقياس إلى هذا المد الروحي. هذه الهوية التي استفادت كذلك من هجرات الويغور المسلمين وبعض من الخوي الصينيين الذين يعرفون في هذه المنطقة بالدونغان، إضافة إلى بعض الأذريين الذين تم ترحيلهم بشكل قسري في عهد ستالين نحو أراضي آسيا الوسطى. وهو العامل الذي يضاف الى انشغالهم بالرعي والزراعة ليمنح قرغيزستان، ميزة هشاشة تأثير المحاولات التعبوية الشيوعية، والتي كانت تفترض كأرضية أساسية، تطور الطبقة العاملة وحدوث ثورة صناعية تسمح بتبلور النضال العمالي وديكتاتورية هذه الطبقة. وحيث إن المناخ الزراعي او الرعوي لم يكن يسمح بتحقيق أسس الاشتراكية، أدى ذلك بالتالي إلى تملص شرائح غير قليلة من القرغيز من ضغط البرامج التعبوية الذاهبة في هذا الاتجاه. وفق هذا المعنى تكون صعوبة التضاريس، ووعورة الحياة صانت قرغيزستان من الهجرات الخارجية، وجعلتها تضم أعلى نسبة من عدد السكان الأصليين، وأقل نسبة من أعداد الروس بالمقارنة مع مناطق الجوار. وهو الأمر الذي جعل الجمهورية تحتفظ بشكل أساسي بفرادة عرقية تحسد عليها بالقياس إلى إشكاليات التهجير القسري الذي تعرضت له الأعراق والجمهوريات الأخرى التي عانت من عملية «ترويس» آثارها قائمة حتى الآن. بين الشمال والجنوب يصعب في واقع الأمر فهم آخر خطاب تلفزيوني توجه به الرئيس القرغيزي المخلوع كرمان بك باكاييف لرئيسة السلطة الموقتة بأنه «فضل الاستقالة والخروج الى طاجيكستان حتى يحمي الأمة من حرب أهلية بين الشمال والجنوب»، من دون التطرق لهذه الحقيقة الجيوسياسية المعقدة، فمن الناحية الجغرافية تقسم سلاسل الجبال البلد الى شمال وجنوب بالمعنى الحقيقي للكلمة، يصعب التواصل بين الجهتين تماماً. إذ تربط العاصمة بشكيك في الشمال بأوش في الجنوب طريق معبدة واحدة يتطلب قطعها أكثر من عشر ساعات في فصل الصيف، أما في فصل الشتاء فإن الظروف المناخية تحتم إقفال الطريق في معظم الأوقات. وعلى رغم وجود خطوط جوية تربط بين بعض مدن البلاد، إلا أنها تبقى آلية «استثنائية» تخرج تماماً عن إمكانات الشعب الكادح. وتركز الحراك الاقتصادي والصناعي في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه اليوم قرابة الستة ملايين نسمة بشكل قطعي في مقاطعات الشمال: تشاو وأسيكول تالس وبشكيك العاصمة. بينما استمرت المناطق في الجنوب أو على مرتفعات الجبال، في وضع قروسطي يمثل الخلفية الرعوية والزراعية لمركز انتهت صلته بالأطراف. على أن إشكالية العلاقة بين الجنوب والشمال تعود إلى ما قبل العهد السوفياتي والتي تسببت بالعديد من الانتفاضات. أهمها الثورة التي اندلعت في 6/8/1916، وقتل فيها ما يزيد عن 2000 روسي، والتي قابلتها السلطات الروسية بطبيعة الحال بعصف ردعي كبير راح ضحيته آلاف من القرغيز المنتفضين وغير المنتفضين. ولم تكتفِ روسيا بقمع الثورة، بل عمدت إلى إحراق قرى ومدن القرغيز أين ما كانوا، وتدمير ممتلكاتهم. الأمر الذي دفع بثلث سكان قرغيرستان في حينه للفرار من الإرهاب الروسي نحو مناطق ويغورستان أو أفغانستان أو أوزبكستان أو سيبيريا، حيث توجد تجمعات واسعة من القرغيز. بل إن القرغيز في الصين يشكلون خامس أهم قومية من القوميات المسلمة العشر، وحيث يتمتعون باستقلال جهوي في إطار ولاية ذاتية الحكم تابعة لسينكيانغ أو ويغورستان، وعاصمتها أتوشي. هذه العزلة التي تفصل الشمال عن الجنوب ستتحول مع الزمن إلى عزلة اقتصادية وسياسية واجتماعية ذات مؤشرات ونتائج عاصفة، وهي ما حاولت كسره ثورة السوسن الأولى، التي رفعت الى سدة الحكم أول رئيس جنوبي اختاره الشعب. وكان سقوط الاتحاد السوفياتي السابق اغرق البلاد وفق محدودية محور اقتصادياتها، في أزمة اقتصادية غير مسبوقة، والتي فجرت حالة من الضغط القاعدي دفع معظم الروس والأوكرانيين للهجرة العكسية وترك مساحات واسعة من العاصمة ومدن السهول. وقد لمس اهل الجبال والجنوب فداحة المسافة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تفصل بين شرائح الشعب من جهة، والرفاهية التي كان يتميز بها أهل السلطة الموالون للمركز السابق من جهة أخرى. هكذا عبرت ثورة السوسن الأولى عن عنفوان أمة بأكملها وكانت استمراراً لحالة رفض لم تهدأ عبر التاريخ. على أن خذلان الرئيس الجديد للثورة سرعان ما حرك هذا الغضب مرة أخرى، وأجج ثورة سوسن جديدة خمس سنوات بعد الثورة الأولى. حيث اتهمه الشعب بأنه لم يكن وفياً لوعوده وأنه انغمس كسابقيه في الفساد وسوء الإدارة، وأن البؤس تفاقم في عهده. وأنه بالأخص صار يبيع البلاد لقوى أجنبية بالقياس إلى وجود القاعدة الأميركية التي ترى فيها شرائح القرغيز خيانة لنضالات المسلمين في أفغانستان ضد القوى الغربيةالمحتلة. ولكن من دون أن يتم التأكد بأن ما يحدث اليوم في قرغيزيا هو بالفعل من صنع الشعب، حيث السؤال الذي يطرح هو إذا ما كانت محركات الثورة بالفعل من داخل الشعب، وهل ثمة أيد خارجية ليست بالضرورة وفية لمطالب الشعب والأمة هي التي تحرك هذا الرفض؟ وهل لموسكو يد في الأمر؟ يشار الى ان زعيمة حركة الرفض الأخيرة روزا اوتونباييفا من الجنوب، وهي قرغيزية ومسلمة، وبالتالي فهي سحبت من تحت أقدام الرئيس المخلوع بساط التنديد بجهة أجنبية. وهذه الحركة حملت أول امرأة مسلمة من القرغيز الى سدة سلطة في آسيا الوسطى، وهو ما لا يمكن تصور قبوله من عقلية يغلب عليها شيوخ الصوفية، أو على الأقل لا يمكن تصور استمراره. وهو ما تدركه اوتونباييفا بشكل واضح، بحيث إن رفض مسلمي البلد أن تدير شؤونهم امرأة، وإن كانت أفضل نساء البلد، قد يؤسس ورقة لكرمان بك باقاييف. وكان يمكن أن يوظفها لإشعال ثورة مُوازية في جبال قرغيزستان من أجل استمرار حكمه، وهو ما كان سيؤدي بالفعل إلى حرب أهلية بين الشمال والجنوب. من هي روزا اوتونباييفا روزا اوتونباييفا البالغة من العمر 59 سنة أكدت انها لن تستمر في الحكم بل هي على رأس حكومة انتقالية لمدة ستة اشهر ستضع مسودة لدستور جديد، وتقوم بالإعداد للانتخابات. وكونها امرأة لم يمنعها من قيادة الخيار الأفضل لمصلحة الشعب، بل لعلها الأقرب اليهم كأم وابنة من عائلة قرغيزية مسلمة، (هي متزوجة وأم لطفلين). وأكدت خطابات روزا على أنها – رغم انتماءاتها الشيوعية – لن تتخلى عن هويتها الإسلامية. وأثناء خطابها الأخير كانت ترتدي غطاء على رأسها احتراماً لاعتقادات الناس، وهي من ناحية أخرى واضحة في مطالبها وانتصارها لهموم الفقراء، والمطالبة بالنزاهة وتقسيم الأرباح والحقوق... وهي بذاتها مطالب الشعب. ثم تأكيدها المتواصل على انها مع الشعب وليست مع موسكو أو مع واشنطن. ولكن من يقف خلفها بشكل عملي؟ لفهم هذا السؤال، وقبل التطرق لفهم الإجابة بشأنه، يحتاج الأمر لوقفة أمام الأهمية الاستراتيجية والجيوبولتيكية لأرض القرغيز، فعلى حدودها الشرقية نجد ويغورستان أو تركستان الشرقية، الملحقة عنوة بالصين، وعلى حدودها الشمالية أوزبكستان، والجنوبية والغربية طاجكستان، وهي تتربع على أعلى قمم جبال المنطقة. وبذلك وإن لم تكن تمثل مثل معظم جاراتها أرضاً للنفط أو الغاز أو المعادن، على رغم ان الاكتشافات الجيولوجية قد أخذت تشير إلى وجود مخزون مهم من هذه الثروات الاستراتيجية على أرضها، إلا أنها تكتسب قيمة استراتيجية في وسط آسيا، وصمام آمان يفصل بين الصين العظمى وروسيا المتعاظمة، ويحمي الطرفين مما يمكن أن تمثل أميركا من تهديد للمنطقة لو أنها وضعت يدها على قرغيزستان. وهنا لعبت الحكومات القرغيزية السابقة على هذه الورقة من خلال تأجير قاعدة حربية لأميركا في كانون الأول (ديسمبر) 2001 لتوظيفها لضرب طالبان في أفغانستان أو في مناطق الجوار، وكقلعة حماية استباقية في مواجهة إيران. هذا التخوف الذي تبديه روسيا والصين لا تحاول أميركا من طرفها أن تنفيه، إذ يشدد بيان الجنرال ديفيد بتريوس، قائد القيادة الوسطى الأميركية، في نيسان (أبريل) 2009 أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ على «أن آسيا الوسطى تشكل موقعاً محورياً في قارة أوراسيا بين روسيا والصين وجنوب آسيا، وهي بذلك توفر طريق عبور رئيسي للتجارة الإقليمية والدولية وطريقاً لعبور الإمدادات الداعمة لجهود التحالف في أفغانستان». ويضيف: «... إننا نسعى لإيجاد بدائل لقاعدة ماناس الجوية في قيرغيزستان، بحيث إن اتخاذ الحكومة القيرغيزية قراراً قد يقيد وصول الولاياتالمتحدة والحلفاء إلى القاعدة سيكون مخيباً للآمال».br / وشكل وجود القاعدة الأميركية استفزازاً للتيارات الإسلامية في قرغيزستان حرك أكثر من عملية «إرهابية»، الأمر الذي يجعل الكثير من الجهات تشعر بالقلق من ان أعمال العنف في قرغيزستان المتاخمة للصين وكازاخستان وطاجيكستان قد تجر عواقب لا يمكن التنبؤ بها على المنطقة. يبقى أن كل هذه المعطيات تتدخل بقوة هنا في حراك الشعب القرغيزي الذي يطالب بالتصحيح عبر أكثر من واجهة، منها توضيح العلاقة مع موسكو، ومع واشنطن ومع الفساد ومع من يقود البلد، وعن دور الإسلام في سياقات الهوية وخيارات الأمة الاستراتيجية والسياسية. وبالأخص بالقياس لمن يقود البلاد، وهي الأوراق مجتمعة التي ستسعى اوتونباييفا لتقديم إجابات بشأنها، والتي تملك، وحدها في حقيقة الأمر مفاتيح أسرارها. * باحثة ليبية - مركز دراسات الشرق المعاصر - جامعة السوربون، باريس