عند باب مكة قرب منطقة البلد الأثرية الواقعة جنوب مدينة جدة، وفي زحمة الغادين والرائحين، سرعان ما يألف سمعك نداءً يتكرر عند كل حافلة نقل جماعي . عبارات تضيع في تفاصيل المكان لتصبح مجرد مؤثر صوتي في مشهد كبير عنوانه البحث عن لقمة العيش. ولأن حافلات البلد بلونيها البرتقالي والأزرق ارتبطت بحياة البسطاء، فإنها خير وسيلة يمكن أن يستقلها من لم تجُد عليه الدنيا سوى بالقليل. والمواطن عابد العبدلي أحد أولئك «المصيّحين» وهو مسمى دارج لمن يمتهن النداء والترويج لحافلات النقل مقابل عائد مادي. بعد أن ضاقت سبل العيش بعابد اضطر أن يمتهن عملاً لا يتطلب منه كما يقول «أكثر من حنجرة قادرة على مواصلة النداء لساعات طويلة مقابل ريالين فقط عن كل حافلة ينجح في إقناع الناس بركوبها»، ومع صعود آخر راكب يتلقف عابد بفرح الريالين من صاحب الحافلة لينتظر أخرى. وكلما علا صوته نجح في جذب ركاب أكثر. أما النداء الكلاسيكي لكل المصيّحين أمثال عابد فلا يتجاوز بيان وجهة الحافلة بشكل مفصل متبوعاً بالتسعيرة المتعارف عليها. نداء يتحول معه المصيّحون إلى مجرد مرددين للكلمات بشكل آلي، حتى باتوا جزءًا من ثقافة ونكهة باب مكة. ومع تراكم خبرات السنين بات عابد قادراً على تمييز زبائن حافلات النقل الجماعي الذين غالبيتهم من غير السعوديين، لكن النداء لساعات طويلة ومتواصلة يسبب له تورماً في الحنجرة وتضخماً في الصوت وسعالاً مستمراً، و«كل ذلك يهون عندما يعود في نهاية اليوم إلى أسرته حاملاً مبلغاً لا يتجاوز 50 ريالاً، يجتهد لأن تسد قوت أبنائه الأربعة وأمهم». وبعد عناء ساعات النداء الطويلة لا يبقى لعابد سوى نظرات حب يوزعها على أسرته علها تعوضهم عن صمته القسري، فرأس ماله ومكسبه حنجرة يدخرها ليوم عمل جديد. وفي تفاصيل المشهد هناك بقية، فعلى مقربة من منطقة عمل عابد يسند سعد الجهني ظهره على حائط قريب لينفث دخان سيجارته، فيما يتأمل المقاعد الخالية في حافلته المتوقفة منذ خمس ساعات من دون أن يكتمل نصاب ركابها. بمجرد سؤالك عن أحوال عمله يفتح باب همومه على مصراعيه، فالمخالفات المرورية تجاوزت 13 ألفاً، ودخل الحافلة كما يقول «بالكاد يكفي لمتطلبات أسرته الأساسية». ينتزع سعد ظهره من الحائط ليهرول صوب راكب أراد أن يدخل إلى حافلته لكنه ظن للوهلة الأولى أنها بلاسائق، ليندمج سعد مرة أخرى كعضو فعال في سيمفونية النداء لحافلات النقل الجماعي.