أثار قانون الصحافة الجديد الذي أقرّته الحكومة اليمينية المتشددة في بولندا المناهضة للاتحاد الأوروبي حركة احتجاجات شعبية واسعة عمت كل مدن البلاد الكبرى ندّدت بتقويض النظام الديموقراطي عبر فرض سيطرتها الكاملة على وسائل الإعلام التي تموّلها الدولة وتسخيرها لخدمة مصالحها الحزبية والسياسية. وكان اكثر من 20 ألف متظاهر تجمعوا امام مبنى التلفزيون الوطني مرددين» صحافة حرة بولندا حرة» و» من اجل صحافة ديموقراطية». واعتبرت قوى وأحزاب المعارضة «ان اصدار الحزب الحاكم ( القانون والعدالة) لهذا القانون ليس الا خطوة جديدة في سياق سعيه إلى التحكم والانفراد بكل مفاصل السلطة والحياة السياسية في البلاد». ودخل القانون حيز التنفيذ في 8 كانون الثاني (يناير) الماضي، وكانت اول مفاعيله اعفاء مديري الإذاعة ومحطة التلفزيون الوطنيتين من منصبيهما، ومنح وزير المالية بدلاً من اللجنة الاجتماعية المعنية بتنظيم عمل الميديا الرسمية والتي ترتبط مباشرة بالبرلمان، صلاحية تعيين آخرين بدلهما تبين لاحقاً انهما من الحزب الحاكم، ما اضفى على التعيين طابعاً سياسياً بحتاً في تعارض فاضح مع مبادئ الديموقراطية وسيادة القانون. انتهاكات وردود فعل وأثار صدور القانون ردود فعل غاضبة من منظمات الدفاع عن حرية الصحافة في اوروبا التي سارعت الى اصدار بيانات تشجب هذه الخطوة وعدّتها انتهاكاً من قبل الحكومة لمبادئ استقلالية الصحافة وحرية التعبير، وهي: الوكالة الأوروبية للإذاعة والتلفزيون، جمعية الصحافيين الأوروبيين، ورابطة الصحافة البولندية. وطالبت كل هذه المنظمات الحزب الحاكم بوقف تطبيق القانون. قبل ذلك بأيام كان المفوض الأوروبي لحقوق الإنسان نيلس مويزنيكس بعث برسالة إلى الرئيس البولندي اندري دودا يدعوه فيها الى عدم توقيع القانون لما اثاره من جدل وسجالات حادة في المجتمع. وذكرت المتحدّثة باسم مؤسسة الرئاسة البولندية سادورسكا في تعليق على الرسالة» ان الرئيس دودا يولي اهتماماً استثنائياً لوسائل الإعلام الممولة من الدولة، ويحرص اشد الحرص على ان تكون في عملها محايدة وموضوعية وواعدة». تميزت ردود فعل المسؤولين البولنديين على ملاحظات قيادة المفوضية الانتقادية بالحدة والخروج عن اللياقة الديبلوماسية بتوجيههم الإساءة الشخصية لرئيس المفوضية الأوروبية جان - كلود يونكر الذي رفض وصف وارسو لانتقادات المفوضية للقانون ب «الظالمة» و «القاسية» وقال:» لا ارى سبباً لغضب حكومة وارسو وسعيها إلى اضفاء نوع من الدراما المبالغ فيها الى حد كبير لموقفنا المنسجم مع تقاليد روابطنا المشتركة والتزاماتنا التي تعهدنا جمعياً بتنفيذها واحترامها، لاسيما أن علاقاتنا الثنائية جيدة للغاية، وانتقاداتنا ظلت في اطارها البناء من دون ان تترافق مع فرض عقوبات تجيزها العهود المشتركة». وفي خطوة مضادة دعت وارسو المفوضية الأوروبية الى ارسال احد مسؤوليها الكبار للبحث مع وزير الخارجية فيتولد فاشيكوفسكي في دواعي قلقها من القانون، ونقلت «رويترز» عن هذا الوزير قوله: «ان بعض المفوضين الأوروبيين يدلون بتصريحات مبهمة وغريبة تدين حكومة بلادنا مستندين في بلورة موقفهم الى مقالات وتعليقات صحافية». ولاحظ مراقبون «ان هذه التصريح جاء بعد اعلان المفوض الأوروبي للاقتصاد الرقمي غونتر يوتينغر امام مجموعة من الصحافيين الألمان» ان «بولندا يجب ان تخضع للمراقبة بسبب انتهاكها مبدأ سيادة القانون». دفع القانون الجديد الذي في جوهره وشكله، يهدف الى تجريد الميديا التي تموّلها الدولة من الحرية التي تتمتع بها وسائل الإعلام الخاصة بتنوعاتها المختلفة، أربع هيئات متخصصة هي: رابطة الصحافيين الأوروبيين، والفيديرالية الدولية للصحافيين، والفيديرالية الأوروبية للصحافيين، واللجنة الأوروبية للدفاع عن الصحافيين، الى رفع شكاوى لدى منظمة الأمن والتعاون الأوروبي تطالبها بممارسة الضغوط على وارسو لإلغاء القانون وحماية مبادئ حرية الصحافة من الانتهاك وضمان عدم تعريض الصحافيين الى خطر بنود في التشريع الجديد تهدد بوضعهم تحت طائلة القانون، او دفع الغرامات في حالات كثيرة لا يمكن الا ان تشكل انتهاكاً لحقوقهم الدستورية. وقال الوزير فاشيكوفسكي في تصريح نقلته «فرانس برس» اننا «نريد ان نعرف الأسباب التي تدفع المفوضيين الأوروبيين الى عدم استخدام الطرق والقنوات الرسمية مع الحكومة البولندية للتعبيرعن مواقفهم وإبداء آرائهم ووجهات نظرهم حول القوانين التي مرّرها البرلمان، وأحدها قانون الصحافة، واللجوء بدلاً من ذلك الى اجراء مقابلات تنتقد وتهاجم الحكومة في وسائل الإعلام الألمانية؟». سيكون بوسع الحكومة بقوة القانون الجديد طرد المديرين العامين لمحطة التلفزيون الوطنية (TVP) ومحطة الإذاعة الوطنية(Polskie Radio). ووفقاً لموقع (Politico) فإن صلاحية تعيين مديرين جدد أنيطت بوزير المالية». ويقضي القانون أيضاً بتخفيض عدد أعضاء مجالس إدارة وسائل الإعلام الرسمية من المستقلين الذين لا ينتمون الى اي من الأحزاب القائمة». وفي حديث مع التلفزيون الوطني (TVP) قبل ايام من اصدار القانون المثير للجدل رفض وزير الثقافة بيوتر غلينسكي الإجابة عن اسئلة لمحاوره الصحافي قائلاً له: «ما تقومون به هو دعاية سافرة وهي حالة سنضع لها حداً نهائياً في وقت قريب جداً» وفق ما ذكرته «فايننشال تايمز». الميديا مراكز ثقافية وطنية ردود أفعال غلينسكي وما يتخذه من إجراءات تكشف بوضوح نيته حماية وتعزيز ما يسميه «المصالح الوطنية للدولة» وفق رؤية الحزب الحاكم التي تحوّلت إلى واقع راهن ومعاش بأبعاده المتعددة. ووفق التعديلات التشريعية فإن وسائل الإعلام الوطنية المموّلة من موازنة الدولة ستصنف من الآن فصاعداً بأنها «مراكز ثقافية وطنية» مهمتها الأساسية التركيز على «اعمال المؤسسات الرسمية والهيئات الثقافية الوطنية ونشاطاتها» ما يعني عدم خوضها في القضايا السياسية والأداء الحكومي وفضائح الفساد في مؤسسات الحكم وأوساط النخب السياسية. وفي اطار هذه النظرة إلى الوظيفة الصحافية قالت النائب في البرلمان عن الحزب الحاكم إليزابيث كروك:»ان مؤسسات الإعلام الرسمية لا تقوم بوظائفها الفعلية، اذ بدلاً من التعبير عن القيم الثقافية والدينية البولندية، تحوّلت الى منابر مفتوحة للمواقف المناهضة للحكومة». وقدم وزير الخارجية في وقت لاحق تفسيراً اوضح لهذه الفكرة في تصريح نقلته عنه الصحيفة الألمانية «بيلد» قائلاً: «ان الهدف من تشريع القانون الجديد هو ببساطة معالجة مرض «الديمقراطية الليبيرالية» الذي تعاني منه بولندا منذ 25 عاماً وحتى الآن». ونقلت إذاعة «بي بي سي» عن الوزير أيضاً تصريحاً آخر ينسجم مع أسلوبه المعهود من العنجهية والاستفزاز قال فيه:»ان الميديا المموّلة من الدولة يجب ان تلتزم موقفاً مضاداً لوسائل الإعلام الخاصة التي تروّج للقيم الليبرالية وتواجه مواقفها المتحيزة للمعارضة ضد الحكومة». متهماً الحكومة السابقة بفرض نهج محدد على وسائل الإعلام الرسمية يستلهم النموذج «الماركسي» في الترويج لمفهوم ان العالم هو مزيج من الثقافات والأعراق، عالم ينبغي ان يستخدم الدراجات الهوائية، ويتناول سكانه الأطعمة النباتية فحسب، عالم يستخدم وسائل الطاقة البديلة ويشن كفاحاً لا هوادة فيه مع كل أشكال التديّن». جيل الثورة وجبل المخاوف يتراكم جبل جليد المخاوف والقلق الأوروبي من خروق وانتهاكات حكومة وارسو لمعاهدة تأسيس الاتحاد الأوروبي، وتنكّرها للالتزمات التي تعهدت بها بولندا عند نيلها عضوية الاتحاد. ويسري هذا القلق في أوساط الرعيل الأول من الشخصيات والفئات الاجتماعية التي قادت الثورة على النظام الشيوعي في البلاد في أواخر ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي. في حديث مع مجلة «شبيغل» قال الصحافي المشهور وأحد زعماء نقابة «تضامن» آدم ميخنيك:»لا يزال في بلادنا حتى الآن سياسيون يطمحون إلى تكوين دولة على مقاسهم الفكري ومصالحهم الشخصية والحزبية». وأضاف: «كاجينيسكي هو بالضبط مثل أوروبان في هنغاريا، فهما يشتركان في طموح واحد ورغبة مريضة جامحة في إحداث انقلاب يعيدنا إلى العصور المظلمة للشيوعية والديكتاتورية».