أربع ساعات وعشرون دقيقة تخللتها خمس عشرة دقيقة فقط للاستراحة ولتفكيك عضلات وغضاريف الساقين، خُتمت بتصفيق طويل دام أكثر من عشر دقائق، وكان بالإمكان أن يدوم التصفيق لوقت أطول لولا ساعة الليل المتأخرة التي انتهى فيها العرض (الواحدة والنصف ليلاً). هذا هو الاختزال الأول لما حقّقه المخرج والنجم المسرحي الإيطالي غابرييلي لافيا في عرضه الأول لمسرحية «حياة غاليليو غالِيلَيْ» للدراماتورغ الألماني الراحل بيرتولد بريخت، والتي كان بدأ بكتابتها العام 1932 ولم ينته من نصها الأخير إلّا قُبيل رحيله، وربّما كان سيواصل تعديلها والإضافة عليها لولا أن المنيّة باغتته العام 1956. غابرييلي لافيا كان شاهد المسرحية بإخراج أبِ المسرح الإيطالي المعاصر جورجو سترهلر في عام 1963، في عرض استغرق ما يربو على ست ساعات، وأهدى العرض بالذات إلى أستاذه جورجو سترهلر. كان لافيا يفكّر منذ سنين بالعودة إلى هذا النص الذي يُعدّ، إلى جانب «أوبرا القروش الثلاثة» و «بونتيلا وتابعه ماتّي» أهم النصوص الدّالة على مسرح بريخت الملحمي والملتزم، أو الالتزام بمعناه الإنساني الأشمل، هو ما يُركّز عليه غابرييلي لافيا، ذاكراً الكلمة ثلاث مرات متتالية في الحوار الذي يدور بين المعلّم وتلميذه آندريا الذي يُهمّ بالهجرة إلى هولندا: غاليليو: «دعني أستخدم معك، آندريا، كلمة ما عادت تُسخدم في أيّامنا هذه، الالتزام! لو تمكّن العلماء من التزام استخدام علمهم لمصلحة البشر وليس ضدهم، لما كان بمقدور الحكّام استغلال العلم للتدمير... الالتزام يا آندريا...». حكاية المسرحية اختزال لأربعين عاماً من حياة العالم الإيطالي غاليلِيو غالِيلَي ما بين بادوفا وفلورنسا وروما المحكومة من قبل البابا، ما بين عامي 1610 و1652، أي في الفترة التي يُعيد فيها غاليليو الحياة إلى أفكار كوبيرنيكوس واكتشافاته وإلى اقتناعات جوردانو برونو في مواجهة ظلامية الكنيسة الكاثوليكية. بريخت يرسم لنا، كما هي عادته، شخصية عادية ويومية السلوك، ورُغم سموّ مقداره العلمي فغاليليو الذي نراه أمام أعيننا يعيش حياة يومية تتراوح ما بين الشكوك والأهواء والانشغال الكامل عن مسؤولياته العائلية، حتى تجاه ابنته الوحيدة فيرجينيا. كما أنّه يعرض لنا شخصية متناقضة ومعقّدة، ففيما هو يسعى إلى إزاحة ستار الجهل عن العقل البشري وتحفيز المنطق من خلال الرؤية وعدم الاكتفاء بالنظر، ها هو لا يألو جهداً ولا يشعر بالفضيحة أن ينحني أمام ال «غراند دوق فلورنس كوزيمو دي ميديتشي»، ابن الثانية عشرة، ليستعطفه ويحصل على تمويل لتجاربه العلمية، مستعداً لأن يُطلق على كواكبه الأربعة التي اكتشفها حول الشمس اسم «نجوم الميديتشي». واقعية غاليليو وبراغماتيته يعرضهما بريخت باعتيادية مثيرة للدهشة، لكنها ليست مجرّد عرضٍ لحالة، بل استباق لما سيحصل لشخصية «البطل»، قُبيل النهاية، عندما ينقذ الكاردينال مافّيو فينتشينسو باربيريني، الذي نُصّب حبراً أعظم وتقلّد اسم «البابا أوربانو الثامن»، جسد غاليليو من الحرق بتهمة الهرطقة، كونه خالف تعاليم الكنيسة التي تعتبر الأرض مركز الكون وحولها تدور كل الكواكب، بما فيها الشمس، وذلك في ثمانية مدارات كريستالية التصقت بها تلك الكواكب. باربيريني الذي كان يعشق العلم وكان عالماً هو بدوره، ودافع عن غاليليو أكثر من مرّة، يعرف صاحبه جيّداً، لذا يأمر بعدم معاقبته بالحرق. ربّما كان البابا مقتنعاً بما يقوله غاليليو، لكنه، ورُغم كونه أعلى سلطة في الكنيسة لا يستطيع الوقوف في وجه الكنيسة بأسرها، لأن الموافقة على مُكتشفات غاليليو ونظريته «ستُطلق العنان لثورة ضد سلطة روما والكنيسة بأسرها». 80 شخصية ب 26 ممثلاً بأدائه وإدارته لممثليه ال 26 صنع غابرييلي لافيا حالة معاصرة شدّت المشاهد إلى الخشبة وأبقته جالساً في مقعده، لأن الأزياء التاريخية والتأكيد المتكرر للتاريخ التقويمي للأحداث عبر الرواة الثلاثة الذين أعلموا الجمهور عن المكان والزمان اللذين تدور فيهما الأحداث، لم يلغيا شعور المشاهد بأن ما يقوله أبطال المسرحية يمكن أن يُقال اليوم، وذلك بالذات ولّد حالة «التغريب» المطلوبة في مسرح بريخت، أي أن الماضي أكثرُ معاصرة ممّا يُقال اليوم، وبدلاً من إلغاء الحائط الرابع لزيادة «التغريب» تعمّد لافيا إثقال حضور ذلك الحائط من خلال الستار الأسود الثقيل الذي كان يُنزله في كل مرّة يريد إيصال معلومة جديدة إلى المتفرّج أو لتغيير أجزاء من المشاهد والسينوغرافيا على الخشبة، لا بل حوّل حائط عمق المسرح إلى «جدار خامس» ليقول لنا أن للحقيقة أجزاءً خفيّة لا نراها «لكن ينبغي فرضها» لإقناع الآخرين بقبولها، كما يقول غاليليو لتابعه الراهب - العالم الأب فولجينسيو. نقل لافيا مشاهد مثول غاليليو أمام أجهزة التعذيب إلى ما خلف الجدار الخامس وانهياره أمام سطوتها ورعبها، ليزيد هول ما يتعرّض إليه «الإنسان - الفرد» من ألم إزاء سطوة السلطة وقدرتها على كسره وتهديمه. وبذا كان فعل الانهيار أكثر حضوراً ممّا لو كنّا شاهدنا انهيار العالم أمام أعيننا. يُدرك غاليليو مقدار الخراب الذي تسبّب به، ويزداد عذابه حين يواجهه تلميذه آندريا بقوله «بائس ذلك البلد الذي لا أبطال فيه»، فيردّ عليه المعلّم «بل بائس ذلك البلد الذي يحتاج إلى أبطال». ويستفحل عذابه عندما يُخبره آندريا الذي حضر بعد أعوام لوداعه في محجره الخاضع لمراقبة حرّاس الكنيسة، قُبيل مغادرته مهاجراً إلى هولندا، بأن «ايمانويل كانت وضع في الدرج بحثاً كان بدأه على أساس اكتشافاتك حول خصائص الضوء». ينهار العالم لأنه أدرك أن خياره إنكار ما اكتشفه لم يكن مجرّد فعل شخصي ذي تأثير عليه هو وحده، بل إن ما أقدم عليه أخّر مسار العالم عقوداً. ويعرض بريخت هنا مسؤولية العالم والمثقّف إزاء السلطة، ويتساءل: «ماذا لو أنّني لم أضعف إزاء هول أجهزة التعذيب، ما الذي كان يمكن أن يكون عليه العلم لو أنني أُحرقت دون إنكار اقتناعاتي؟». ويعترف: «لكني ضعفت أمام ألم الجسد. لقد وضعوني أمام آلات التعذيب فارتعبت.». إلّا أنّه لم يتوقّف عن البحث والكتابة، يُسرّب لآندريا «حواراته» التي كتبها سراً، ليحملها معه إلى هولندا ويواصل العلم مساره. والأرض «مهما قالوا، تتحرّك» وهي ليست ثابتة ولا هي مركز الكون.