«حين تبدو الحياة لكِ جائرةً، حين تشعرين بالحزن، حين تشعرين بالغضب، يمكنك أن تنسحبي من العالم بهذين القلم والدفتر فقط». جملة تقولها العمّة مادو لابنة أخيها الطفلة جوستين، في رواية الكاتبة اللبنانية بالفرنسية هيام يارد التي صدرت حديثاً عن دار «فايار» الباريسية بعنوان «كل شيء هلوسة». ولن تلبث هذه الجملة أن ترافق جوستين أينما حلّت، وتساعدها في الانسحاب داخل الكلمات، كما داخل الحب. في البداية، ستخطّ هذه الفتاة أفكاراً تشبه «أعضاء جسدٍ مفرط في عريه، ممدد في شكلٍ أرعن». لكن جملة بعد جملة، تتمكن من إعادة إحياء ذاكرة السنوات الخمس الأولى من حياتها التي فقدتها إثر إصابة تعرّضت لها في الخامسة من عمرها، فتكتشف تدريجاً أنها كانت تعيش داخل أكذوبة حاكها والدها أناستاز لإخفاء أسرار عائلية عليها. وهو ما يقودها إلى مواصلة الكتابة على أمل وضع رواية تساعدها في الهروب من كل شيء. من طفولتها، من الغيبوبة التي اختبرتها وهي صغيرة، من غياب أمّها ورفض أبيها التحدث عنها أو حتى لفظ اسمها، وخصوصاً من هوس هذا الأب بأصوله الأرثوذكسية. وفعلاً، منح أناستاز ابنته اسم جوستين لتبجيله الإمبراطور جوستينيان، واستبدل اسم العائلة «فيّاض» ب «نوتاراس» لربط أصوله بالدوق لوقا نوتاراس الذي توفي وهو يدافع عن القسطنطينية ضد جيش محمد الثاني. ومن هذا المنطلق نراه على طول الرواية يعبّر أمام ابنته عن احتقاره لأصوله اللبنانية ويرفض حتى التفوّه بكلمة لبنان أو التكلّم باللغة العربية إلا حين يكون مضطراً. وفي هذه الحالة، كان يقطّع الكلمات ويتجنّب لفظها في شكلٍ كامل. وهذا لا يعني أنه كانت للغرب حظوة عنده، إذ فضّل الاستقرار مع ابنته في القاهرة على العيش في أوروبا التي كان يرى فيها أرض الصليبيين الذين نهبوا وأحرقوا القسطنطينة وهم في طريقهم إلى القدس، و «أرض الكفّار المستعبَدة اليوم على يد الرأسمالية». ترعرعت جوستين إذاً قرب هذا الوالد الذي كان يعيش في الماضي ويمضي وقته في ترميم أيقونات بيزنطية، مستغلاً أقل فرصة للانطلاق في مونولوغات طويلة يتناول خلالها عظمة بيزنطيا وبشاعة سائر ما تبقّى. ولأنه سيُصعق حين يكتشف دفترها ويرى في ممارستها الكتابة شرّاً وتكّبراً على «حقيقة البارئ التي ليست من هذا العالم»، تقرر جوستين متابعة الكتابة من منطلق «ضرورة محاربة الشرّ بالشر»، كما كان والدها يردد أمامها. كتابة تسمح لها تدريجياً باكتشاف إمكانية «الالتفاف على من لديه إرادة قتلنا» والتحرر منه، مستعينةً أيضاً بنصائح رفاقها في المدرسة: مهدي الذي يؤمن بسلطة التحرر الكامنة في الجسد ورغباته، وسمر التي تؤمن بضرورة تجاوز الجسد لبلوغ الحرية والارتقاء بالذات، وتييري الذي يعيش التباساً في هويته الجنسية. هكذا، ورغم معارضة والدها، تغادر جوستين القاهرة بحجة إكمال دراستها، وتستقر في بيروت حيث تعيش في البداية داخل مسكن للطلبة، قبل أن تستأجر غرفة في شقة دلال، وهي مصوّرة صحافية متحرّرة تحيا على وقع مغامراتها العاطفية الغزيرة وتحنّ إلى زمن «النهضة» حيث «كانت نخبة مجتمعاتنا تكترث لقدر وطنها أكثر منه لرفاهيتها، ولا تتردد في رفع لغتها كدرعٍ في وجه المحتلّ». وبسرعة، تحلّ دلال، بخطاباتها النارية ومونولوغاتها التي لا تنتهي، مكان أناستاز في حياة جوستين. ولكن على خلاف الأخير الذي «لم يكن يريد نوافذ أخرى على العالم سوى تلك التي كان يصرّ على إغلاقها»، تلعب دلال دوراً محورياً في كسر عزلة صديقتها داخل الكتابة وتعرُّفِها تدريجياً إلى جسدها ورغباته، فتنطلقان معاً في مغامرات ثنائية، لكن من دون أن تنجح جوستين في تحقيق ذاتها أو حتى بلوغ متعة عابرة: «المشكلة هي الشبع (...). وجدتُ كمّاً من الحب في الحرمان، كمّاً من الملذات في الانتظار. انعدام الأمان هذا الذي لا يحلم العشّاق إلا بالخروج منه، يندمون عليه فور استهلاك العلاقة». تجدر الإشارة هنا إلى أن رواية هيام يارد لا تقتصر على قصة جوستين، رغم مركزيتها. فمن هذه القصة التي تقع أحداثها في زمننا، ولا تمكن متابعة سرد تطوّراتها من دون إفساد متعة قراءتها، تتفرّع قصصٌ كثيرة غيرها لا تقلّ إثارةً وأهمية عنها. فإلى جانب قصة والد جوستين التي ستعرف بدورها تطوّرات غير متوقّعة، ولن نتمكن من فهم محرّكاتها ومآلها إلا على ضوء قصة الجدّ، هنالك قصة العمّة مادو التي لن ينكشف سبب شللها، وبالتالي مأساتها، إلا مع اطّلاعنا على قصة هذا الجد وطبيعة شخصيته. هنالك أيضاً قصة والدة جوسلين الشبيهة إلى حد ما بقصة جدّة دلال، المقاوِمة الفلسطينية التي، بعد نضالٍ عسكري في صفوف «منظمة التحرير»، تقع في تزمّت ديني يحول دون مباركتها زواج ابنتها من مسيحي لبناني، ناهيك بقصة كلّ من مهدي وسمر وتييري ودلال. باختصار، شخصيات كثيرة غنية بالألوان ومرسومة بدقة، تتشابك أقدارها داخل الرواية، ضمن حبكة مشغولة بعناية، وتسمح ليارد بمقاربة مواضيع كثيرة راهنة وبإلقاء نظرة تحليلية ثاقبة عليها عبر تسجيلها مواقف مختلفة ومتضاربة منها. مواضيع تتعذّر محاصرتها هنا، ونذكر منها: وضع لبنان الراهن الذي يتجلى على ضوء تاريخه الحديث وطبيعة مجتمعه، مسألة العلمانية وتراجُعها في عالمنا العربي أمام الفكر الديني الظلامي، الثورات العربية الأخيرة التي تعتبر الروائية أن إشعالها ليس كل شيء، بل «يجب أيضاً المحافظة على ديمومتها والبدء ليس بقمة الهرم بل بأسفله، بالقاعدة» لأن «الرؤوس التي يجب أن تسقط هي أولاً بيننا، تحت سقفنا، في محيطنا العائلي». ولا تنسى يارد موضوع الاستبداد الذي تسجّل حوله موقفين مثيرين، الأول على لسان عشيق جوستين الأول: «الاستبداد ضرورة كي نرغب الحرية. ما أن نبلغ هذه الحرية حتى نفقد سبب سعينا خلفها ونتوجّه من جديد نحو قدرتنا على إعادة خلق ما يستبدّ بنا»، والثاني على لسان سمر، بعد تعرّضها للاغتصاب داخل السجن: «أن نكون ضد مَن يستبدّ بنا هو أن نستمر في جعل أنفسنا رهائن. هنالك القدر نفسه من الجهل عند المضطهِد منه عند مَن لا ينجح في تخيّل أن الحرية تنبع من الاضطهاد وأن هذا الرابط يتعذّر تدميره. لا أتحدث عن الحرية التي نطالب بها في الشارع.