كثيراً ما سحرت حكاية توماس بيكيت مؤلفي القرن العشرين، من مسرحيين وروائيين، الى درجة ان واحداً من كبار هؤلاء، الشاعر والناقد ت. إس إليوت، خصّه بواحد من أفضل نصوصه: مسرحية «مقتلة في الكاتدرائية» وإلى درجة ان جان آنوي، الكاتب الفرنسي الشديد الكاثوليكية الذي ما عهد خارجاً، في اعماله المسرحية، بإفراط عن مواضيع فرنسية، خصّه هو الآخر بمسرحية تعتبر اشهر ما كتب ونقلت الى شاشة السينما في الستينات، وهي مسرحية «بيكيت»، أو «شرف الله» التي كتبها في عام 1959، بعد ربع قرن من صدور مسرحية إليوت. وتوماس بكيت هو، في القرن الثاني عشر الإنكليزي، كاتب ومفكر صار اسقفاً لكانتربري ومستشاراً لملك انكلترا هنري الثاني، قبل ان يضطهد ويعدم، ظلماً ولصواب رأيه المخالف رأي سيده، ويتحول بعد ذلك الى واحد من قديسي الكنيسة المسيحية. ولئن كان كتّاب القرن العشرين، الذين كان همهم البحث عن بطولات فكرية ليعيدوا إليها الاعتبار، فتنوا بحكاية توماس بيكيت وحداثة افكاره ومواقفه، فإن كاتباً سويسرياً - باللغة الألمانية - كان سبقهم الى بيكيت بأكثر من نصف قرن، راوياً حكايته مقدماً حياته وأفكاره عبرة لمن يعتبر. وهذا الكاتب هو كونراد فرديناند ماير، الذي - من دون ان يكون كاتباً مبدعاً ومبتكراً المواضيع - عرف كيف يجعل لنفسه في عالم الأدب، وبفضل كتاباته الغزيرة، مكانة اساسية في زمنه، وإن كان يبدو منسياً بعض الشيء في ايامنا هذه. يفتتح كونراد ماير روايته، وعنوانها «القديس»، بشخصية مبتكرة هي شخصية هانز، السويسري الذي عاد الى بلاده بعد فترة طويلة من الزمن قضاها في خدمة ملك انكلترا، آواخر القرن الثاني عشر. وهانز هذا إذ يجابهه وهو في زوريخ خبر تطويب توماس بيكيت قديساً في الكنيسة الرومانية، يقول لمن اجتمعوا من حوله متسائلين عن خلفية هذا كله، في الفصل الأول من الرواية: «اعطوني، يا اصدقائي، بعض الوقت فأحدثكم عن الإنسان الأكثر استثنائية الذي عرفه هذا الكون... عن النموذج الإنساني الذي يجدر بنا ان نحتذيه». وسنعرف على الفور ان هانز تعرّف إلى بيكيت حقاً في بلاط الملك وعرفه عن كثب. وإذا كان التاريخ الحقيقي أبقى لنا من حكاية توماس بيكيت صورة الرجل السياسي الذي ابدى كل النباهة وهو يخدم العرش في بلاده، والذي ما إن عينه مليكه على رأس الكنيسة في هذه البلاد، حتى أدار له ظهر المجن لأسباب تتعلق بنزاهته ومبدئيته، فمات مقتولاً بتحريض من ذلك الملك، فإن الكاتب كونراد ماير، يقدم صورة اخرى تبدو متناقضة الى حد ما. مع الصورة التي يصفها بطله هانز، من المؤكد ان بيكيت إنما هو رجل العصر. ذلك ان ماير يقدم المفكر الثائر في روايته «القديس» رجلاً معزولاً وحيداً. إنه رجل تسيّر ظروف العصر والأوضاع السياسية كينونته وأفكاره حقاً، كما تفعل ذلك العلاقات الاجتماعية، لكن افكاره ومبادئه ومواقفه تبدو طالعة من داخل ذاته يمليها عليه ضميره ووعيه الخاصان. والسؤال الأساس الذي ينبع من هذا كله، والذي تحاول هذه الرواية ان تجيب عنه، على طريقتها هو: كيف يمكننا ان نفسر انقلاب توماس بيكيت على ملكه وسيده وراعي نعمته، ما إن عيّن رئيساً لأساقفة كانتربري؟ ان الجواب، او التفسير الذي يحاول ان يكون منطقياً بالأحرى والذي تقترحه علينا الرواية هو الآتي: بالنسبة الى كونراد ماير مهما كان من شأن دوافع بيكيت ليتصرف كما تصرف، هناك خلفية واحدة لهذا كله: إن الإنسان، ومهما كان سموه وسمو أفكاره، كائن يفاجئ ولا يمكننا، ابداً، ان نزعم ان في إمكاننا توقع ردود فعله على اي امر كان. ومن هنا فإن هذه الرواية المدهشة، لا تحاول ان تقول تاريخية الحدث، بمقدار ما تقول نظرة مؤلفها الى الإنسان. لأن المهم هنا ليس موقف بيكيت، الذي قاده الى الاستشهاد ثم التطويب، بل كونه انساناً يملي عليه وعيه الخاص، والمتغيّر، تصرفاته مهما كان الثمن. وفي هذا الإطار علينا ان نلاحظ، مع دارسي عمل ماير هذا، ان الكاتب، الذي كان يعتبر نفسه مفكراً ومؤرخاً في الوقت نفسه، لا يسعى الى تفسير او تبرير المواقف التي يتمسك بها بطله، انطلاقاً من الظروف الاجتماعية الراهنة، بل انطلاقاً من قناعات انسانية راسخة في داخل الشخصية، ما يجعل «بيكيت» ماير، انساناً يقف خارج الزمن، وبالتضاد مع صورته لدى إليوت وآنوي مثلاً، حيث يقدم ابن زمنه وتاريخه. وكونراد ماير لم يسعَ الى اخفاء هذا، إذ نجده يقول في صدد روايته هذه، حين ثار نقاش حاد من حولها، زمن صدورها (حوالى عام 1879): «إنني في الحقيقة أستخدم هنا شكل الرواية التاريخية القصيرة، بكل بساطة، من اجل التعبير عن افكاري وعن مشاعري الشخصية الخاصة». ومن هنا فإن توماس بيكيت لا يعود، تحت قلم ماير، سوى مادة يشتغل عليها لتقديم افكار شديدة المعاصرة، ترتبط بعنصر الذات والأفكار الشخصية الذي كان عنصراً اساسياً من عناصر الإبداع والفكر عند نهاية القرن التاسع عشر، أي زمن كتابة الرواية، لا زمن أحداثها التاريخية. من الواضح ان ما أراد كونراد ماير ان يقوله في هذه الرواية - وهو شيء يؤكده كاتبو سيرته على اي حال - انما هو موقفه المكتئب إزاء زمنه وأفكار زمنه ونوع البطولات التي كانت سائدة فيه. فهو كان في ذلك الحين بالذات، قلقاً وغير مرتاح الى اي وضع من الأوضاع. لذلك كان - وبحسب تصريحاته الشخصية - يلجأ الى التاريخ وكتابة التاريخ كنوع من المهرب. وينظر الى احداث التاريخ، ليس في واقعها وحقيقتها، بل فقط عبر مرشح الذات ونافذة العواطف الشخصية... ومن هنا كان من الواضح ان توماس بيكيت في رواية «القديس» لا يشبه الشخصية التاريخية الحقيقية، بقدر ما يشبه ماير نفسه. ومع هذا، على رغم ان هذا التوجه سيسود فن كتابة الروايات التاريخية بعد ماير بزمن معطياً ماير كل المبررات التي تفسر اختياره هذا، فإن باحثين كثراً يرون ان الرجل كان، بعد كل شيء، كاتباً مرتبطاً بزمنه، اي بزمن الواقعية، وأن رواية «القديس» مهما كان الطابع الذاتي طاغياً فيها، تظل واقعية الكتابة، واقعية اللغة والأجواء. تظل عملاً عن توماس بيكيت لا يمكن هذا الأخير أن يستنكره لو بعث الى الحياة وقرأه. وكونراد فرديناند ماير، الكاتب السويسري - الألماني، الذي عاش بين 1825 و1898، كان معروفاً بوقوفه عند النقطة الجامعة بين ثلاث ثقافات ولغات: الألمانية والإيطالية والفرنسية، وقد اتسمت حياته - وكتاباته بالتالي - بقدر كبير من التشاؤم والقدرية، لكنه من الناحية السياسية كان مناصراً لبسمارك مؤمناً بقوته كزعيم. وكان ماير شاعراً ومفكراً اخلاقياً، غير انه - في افضل حالاته - جعل الشعر والأخلاق جزءاً من الكتابة التي اشتهر بها اكثر من غيرها: الروايات التاريخية التي تبدى في بعضها متأثراً بمؤرخ عصر النهضة مواطنه الكبير يعقوب بوركهاردت. ومن اشهر روايات ماير: «ثورة في الجبل» و «إغواء بسكارا»... [email protected]