في هواء صباح ربيعي بارد، يقصد باص أبيض صغير مكتبة الإسكندرية آتياً من فندق «راديسون» في مدينة «ألكس ويست» (=الإسكندرية غرب) التي بدأت بوادر عمرانها تنتشر بداية من آخر حي العجمي الشهير، الذي كان الحدّ الغربي للإسكندرية. يدير الباص ظهره لبحيرة طبيعية، ويسير في موازاة البحر، ليصل الى نقطة «الكيلو 21»، ثم ينعطف ليلتقط طريق القاهرة - الاسكندرية الصحراوي. هل يخطر في بال أهل منطقة «العصافرة» ان الباص الذي يبتعد عن حيّهم، يحمل نخبة من علماء في البيولوجيا والطب والأدوية، بعضهم يحمل جائزة نوبل في تلك العلوم، بل يحمل البروفسور الجزائري - الأميركي إلياس زرهوني، وهو المبعوث العلمي للرئيس باراك أوباما في دول شمال أفريقيا والخليج العربي؟ ويجيء هؤلاء وأمثالهم للمرة الخامسة، كما جرت العادة كل سنتين، ليحضروا مؤتمر «بيوفيجن 2010» الدولي المخصّص لعلوم البيولوجيا. يسلك الباص درب «وادي القمر» ليتابع طريق «قناة السويس». تتسرب من النوافذ روائح متمازجة تدلّ الى أمكنة مهمة. يصعب تفادي الرائحة النفّاذة لمصفاة البترول. وكذلك يتعلّم الأنف رائحة سبخات يكوّنها نهر النيل قبل ملاقاته البحر. تكتظ هذه السبخات بجُزِر من أعواد القصب الكثيفة، فتصبح مكاناً مثالياً لصيد الإوز والبط، إضافة الى كونها مصدراً للرز. ماذا لو عطش النيل بفعل الخلاف بين دول المنبع قرب بحيرات فيكتوريا من جهة، ودولتي المسار والمصب (مصر والسودان)؟ هل يضرب العطش الدلتا، على رغم السدّ العالي الذي حماها من نوبات تقلب الأمطار لنصف قرن، أم تفرد مصر مجدداً ذراعها الاستراتيجية في أفريقيا لتحمي أرضها وأهلها من كابوس ثقيل؟ «داون تاون» بيروتي بذائقة خليجية تستيقظ الأُذن على عبارة تستدرج صمتاً حولها. إنها ليست «انفلونزا الخنازير غيت» Swine Flu Gate. وإذ ينطق العبارة الاختصاصي الدولي في اللقاحات البروفسور جاك - فرانسوا مارتان، تلاقي اهتماماً يتعدى أذني اختصاصي ألماني في الوقاية من الأوبئة جلس الى جواره. يقترب الباص من الاسكندرية. ويعبر مساحة تسمي نفسها «أجمل منطقة في الإسكندرية». وتُكني نفسها بأنها «داون تاون» تيمّناً ببيروت، في ما يميل عمرانها الى اقتباس الذائقة الخليجية في بناء وسط المدينة، خصوصاً تلاصق المولات ذات الأسماء، وأبرزها «كارفور» الذي تُعرف به تلك المنطقة أحياناً. على الباص ان يعبر محرم بك متجهاً إلى الشاطبي، مخترقاً الوسط القديم للإسكندرية، ليستقر على الرصيف المقابل لجامعتها والملاصق لمكتبتها التي باتت ذائعة الشهرة. وفي تلك المسافة، يشرح البروفسور مارتان وجهة نظره في إقرار «منظمة الصحة العالمية» بأنها ارتكبت أخطاء في تقويمها لوباء انفلونزا الخنازير، إضافة الى تشكيل لجنة تحقيق في شأن ضغوط شركات الأدوية العملاقة على قرارات تلك المنظمة. ويشدّد على أن الوقائع لم تتجمع بصورة كافية للحصول على خلاصات قوية يمكن الاستناد إليها لاحقاً، ما يزيد في أعمال لجنه التحقيق أيضاً. ويميل للاعتراف واقعياً بأن شركات الأدوية العملاقة تمارس تأثيراً قوياً في قرارات المؤسسات العلمية عالمياً، مثل «منظمة الصحة العالمية». ويفسر هذا بالتشابك بين استراتيجيات عمل تلك المنظمة، مثل اعتمادها الكبير على اللقاحات في الوقاية من الأوبئة، وبين الشركات التي تهيمن على صناعة اللقاحات. وينبّه مارتان الى ضرورة التفكير في العلاقة بين وبائي الطيور والخنازير. «جاء وباء الخنازير بعد موجة انفلونزا الطيور، التي تميّز فيروسها «اتش 1 أن5» بالضراوة. في البؤرة الأولى ساد انطباع ان الأمر يتعلق بوباء مماثل، مع خشية شديدة من أن امتزاج الفيروسين، أحدهما قاتل قوي والآخر سريع الانتشار، قد يطلق وباء أبوكاليبسياً يحصد ملايين الأرواح. وزاد في التوتر ان الأرقام الأولى للوباء، التي جاءت من المسكيك، تميّزت بارتفاع نسبة الوفيّات فيها. وليس معروفاً سبب هذا الأمر، الذي قد يعود الى سوء الوضع الصحي (سوء تغذية، ضعف الرعاية الصحية، تكاثر الامراض...) في المنطقة الريفية التي انطلق منها وباء الخنازير. حملت الأرقام الأولى لانتشار الوباء في الولاياتالمتحدة على الخوف، لأنها أشارت الى سرعة كبيرة في انتشاره . تصرفت المنظمة والحكومات بموجب تلك المخاوف. لا يستطيع أحد ان يتنبأ بمسار الأمور بالنسبة الى فيروسات الانفلونزا التي تغيّر تركيبها باستمرار. ربما لا يبدو هذا مُطمئناً، لكني أعتقد ان بعض الأخطاء سيتكرّر إذا حدث وباء مماثل. ربما يجب تغيير طريقة وضع درجات الوباء، لأن الانتشار الجغرافي لم يعد عاملاً حاسماً في صورة الوباء، في عالم محكوم بسرعة انتشار الميكروبات. وشخصياً، أفكر أن العلم ما زال يعمل بالاستناد الى الوقائع، ولكن الوصول الى تصوّر عن وباء يتضمن الكثير من الافتراض. نعرف الكثير، ولكن ما لا نعرفه أكثر بكثير».