في المجتمع السعودي ثلاث فئات؛ الأولى يمثلها «الليبراليون» والثانية يقودها الإسلاميون، أما الفئة الثالثة فهي الفئة التي تذهب صباحاً إلى الدوام وتعود بعد الظهر محملة ب«مقاضي المطبخ وعلى رأسها اللبن لزوم النوم بعمق بعد تناول الكبسة»، وهي الفئة الأكثر عدداً والتي يمكن أن نسميها الفئة «الصامتة». أستطيع أن أطلق على الفئة الأولى مصطلح: «الدنيويين (من دنيا)» والفئة الثانية «الأخرويين (من الآخرة)»، فالفئة الأولى تعمل وكأنها تعيش أبداً، والثانية تعمل وكأنها تموت غداً، وكلتا الفئتين يعمل لهدف واحد هو السيطرة على الفئة الصامتة وقيادتها، من دون وضع أي اعتبار لمفهومي: الدولة والمواطنة، لدرجة أصبحنا معها نطلق على هذا الشخص: «ليبرالي» وذاك «إسلامي» مع أن الاثنين من مواطني السعودية. أن نصف شخصاً ما بأنه ليبرالي سعودي أو إسلامي سعودي، أقل ضرراً من تجاهل هويته الوطنية مقابل إبراز هويته الفكرية (تصنيفه الفكري). هذا هدم للوطن، ونسف لروح المواطنة، التي عادة ما ترتقي بالإنسان إلى التوحد مع وطنه، ومن ثم النهوض بالوطن إلى مصاف متقدمة. هذا لا يعني أن «الدنيويين» و«الأخرويين» ليسوا مواطنين، بل هم مواطنون خلص دفعهم الاجتهاد والحماسة لتجاوز مفهومي الدولة والمواطنة بحسن نية من أجل السيطرة على الفئة الصامتة ومن ثم قيادة المجتمع. تعصب طرف ما لفكرة ما، يعمي الطرف الآخر عن جوهر الفكرة ومضمونها. هذا بالضبط ما يجري يومياً بين «الدنيويين» و«الأخرويين»، في السعودية، مع أنهما يقفان على مساحة مشتركة، وليس على طرفي نقيض كما يشاع. «الأخرويون» يريدون قيادة المجتمع/ الفئة الصامتة ليضعوا الدولة أمام الأمر الواقع، ومن ثم يملون عليها مشروعهم الفكري – إن وجد – وكذلك يفعل «الدنيويون». «الدنيويون» يصفون «الأخرويين» بأنهم «ظلاميون» و«الأخرويون» يصفون «الدنيويين» بأنهم «تغريبيون» ورواد سفارات. «الدنيويون» يرون أن العالم يتحرك بسرعة، وأن على المجتمع أن يواكب هذه المتغيرات، فيرد «الأخرويون» عليهم بأن منهجهم صالح لكل زمان ومكان، علماً بأن باب الاجتهاد – الاجتهاد الحقيقي وليس اجتهاد الأحمد والبراك – معطل منذ نحو ستة قرون، هذا إذا اعتبرنا الشيخ محمد بن عبدالوهاب مجدداً ومصلحاً اجتماعياً وليس مجتهداً. إن استمرار السجال بين الليبراليين والإسلاميين يعطل كثيراً من المشاريع الاجتماعية، ويقلص مساحة المواطنة داخل الإنسان السعودي، ويجعل الدولة تتوقف عن كل شيء لتتفرغ لإدارة هذا السجال أو لانتظار نتائجه، وهذا من شأنه أن يوقف نمو المجتمع والدولة معاً، في وقت نعلم فيه جميعاً – إسلاميين وليبراليين وصامتين – أن هناك صراعاً دولياً على منطقتنا، وأن هناك من يحاول أن يأخذ دور دولتنا السياسي والاجتماعي، إضافة إلى نشوء قوى إقليمية فاعلة تعمل على قيادة العالم الإسلامي، إيران وتركيا مثلاً، ناهيك عن تراجع الدور الأميركي والأوروبي في المنطقة، منذ أن ورط «المورطون» واشنطن في وحل العراق وأفغانستان المجبولين على الدم. إذاً والحال هذه، لماذا لا يصار إلى نقاط الاشتراك بين «الدنيويين» و«الأخرويين»، وهي هنا مفهوما الدولة والمواطنة؟ لماذا لا يؤخذ رأي الفئة الصامتة في هذا السجال الذي مزق آذاننا وأنفقنا عليه مئات الملايين ثمناً للأحبار الملونة والورق لتطالعنا صحافتنا يومياً ب«مانشيتات» تحرق ما تبقى من معاني المواطنة في صدورنا؟ الليبراليون يرون أن مسألة كسبهم المعركة، مسألة وقت لا أكثر، وهذا صحيح، فيما الإسلاميون يرون أنها معركة من ضمن معارك أخرى، وأن الصبر والجلد هما الطريق التي تقودهم لإنهاء الحرب لمصلحتهم، وهذا خطأ فادح، لأنه يخلق جيلاً – لدى الطرفين – لا يؤمن بالحوار المتاح حالياً، وعندها يصبح السجال على رماد أكلت خيره النار. تعالوا نطفئ هذه النار ونعمل على بناء وطن قادر على حماية أجيالنا ومكتسباتنا. تعالوا ننضم إلى الفئة الصامتة ونستنطقها، لنعرف ماذا تريد. تعالوا نفكر في أمننا الغذائي، فنحن لا زرع لدينا ولا ضرع، سوى هذا الوطن الذي تصالح فيه الإنسان مع تاريخه بشكل لم يكدره سوى العقم الفكري الذي نعيشه. تعالوا لنجعل الأفكار مُلك لأصحابها، والوطن للجميع.