حتى أكون صادقاً، أخيراً لم يعد تستهويني متابعة الجديد في السرد العربي، بعد أن أمضيت سنوات في ذلك، هناك أسماء محددة أتابعها وجدتُّ عند أصحابها أمارات السرد وجمالياته. ومن حين إلى آخر أستفسر من الأصدقاء عن أجمل ما مرعليهم من أعمال محلية أو عربية، فرشح لي أحد الأصدقاء رواية «ذكريات ضالة» للروائي الكويتي الشاب عبدالله البصيّص، ثم علمت فيما بعد ما أثير حول الرواية من صخب ومنع وقضايا، وهي أمور خارج العملية السردية، نحن في النهاية منحازون إلى الجمال والفن. عندما أتحدث عن العمل الأول لأي كاتب فإن معاييرالتقييم عندي تختلف، فالملاحظات الطفيفة لا تستوقفني طالما أن الكاتب تجاوز أكبر وأصعب مآزق السرد، واستطاع الحفاظ على قارئه إلى النهاية، وهذا ما وجدته في رواية «ذكريات ضالة» وهو أمر، بكل صدق، نادر الحدوث في الرواية العربية. بدأت الرواية بتكنيك لطيف، ثم مهد ذلك بقراءة نفسية لبطل الرواية، ثم ولج في الحدث بلغة سردية موظِّفة الإيقاع، متسارعة تواكب حركة الحدث، ثم متأنية منسجمة مع تداعي الذاكرة وحميمية الاسترجاع. وعلى رغم الأجواء البوليسية الحركية في بداية الرواية والتي تحفزنا لمعرفة الأحداث وما جرى مع «المنشار» إلا أن الكاتب وبكل هدوء جعلنا نتوقف مع تداعيات الذاكرة، وباستخدام تقنية «الفلاش باك» بعد الانتهاء من الربع الأول من الرواية ليحكي لنا بلغة شفافة سلسة عن البداية، الطفولة، المدرسة، الشوارع، الحمَام، والكلاب الضالة، عن المدرسة، حميد، صفاء، الوفاء، الحزن، «البدون»، الاحتلال، الفقد، في انسياق شفاف، وتأزمية متدرجة، وبفن أخّاذ، لنقع أسرى التداعيات، ثم ينقلنا بعد ذلك إلى الحدث الأول، كل هذا فعله الكاتب من دون أن يقارف القارئ تخطي بعض الصفحات لمعرفة ما حصل، وهذه قدرة فنية بديعة من الكاتب. من الأشياء التي أجادها الكاتب في نظري، هذه الشخصيات المبنية بفن، وهذه الأصوات المتفاوتة التي استطاع أن يخلقها الكاتب في عمله، فكل شخصية في الرواية لها صوتها الخاص، مكونها الخاص، قد نختلف في بعضها، من حيث المنطق الفلسفي، والفني، لكن الكاتب رسم شخوصه بطريقة فنية رائعة. موضوع الرواية قد يكون تكرر كثيراً في الرواية الكويتية، وقد ذكرت عندما كتبت عن رواية «فئران أمي حصة» أن الحديث عن «البدون» وحرب الخليج أصبح سمة لازمة للرواية الكويتية، إلا أن تناول عبدالله البصيص في روايته هذه كان موفقاً على رغم تكرار الموضوع، وليس شرطاً أن تكون القضية في الرواية محوراً، ربما يكون مجرد التلميح، والتعريج عليها بفن في جملة، أو إشارة، يكون أكثر وقعاً، من حضور القضية كمحور، فإصابة والد سلمان في ساقه عبّر عن الكثير من المعاني والجماليات من دون الاستفاضة في الحديث عن المقاومة. نعم هناك ملاحظات قليلة في الرواية، لكن كما ذكرت من قبل أن الجماليات طغت، والحرفية السردية ظهرت بفن من دون ادعاء، أو تكلف، وهو العمل الأول للكاتب، الرواية تحتاج إلى دراسة وتحليل، وما كتب هنا هو مجرد تلويحة للفن. عبدالله البصيص ينضم إلى أسماء جميلة في الكويت بدأت تكتب السرد بفن وجدارة، ننتظر منه الكثير. * كاتب سعودي.