قبل نهاية رواية تركي الحمد (جروح الذاكرة) يتكلم السارد أفكار لطيفة الإثلة وقرارها كتابة سيرتها الذاتية قائلا: (نعم , لماذا لا تكتب قصة حياتها على شكل رواية, فحياتها أكثر دراماتيكية من أي رواية سبق أن قرأتها؟ ولكنها لا تعرف فن الراوية و لا تقنياتها , فكيف تكتب رواية؟..ولكن من قال إن كاتب الرواية يجب أن يكون ملما بتقنياتها؟..كبار كتاب الرواية كتبوها نتيجة معاناة , وليس لامتلاكهم تقنياتها. تقنيات الرواية استخلصها النقاد من كتابات الروائيين , ولم يفلح الروائيون لأنهم التزموا بتقنيات النقاد. الناقد بحاجة إلى الأديب, ولكن الأديب ليس بالضرورة بحاجة إلى الناقد..والحياة برمتها عبارة عن رواية كبيرة , ونحن نعيشها دون أن نعي تقنياتها. وهي تشعر في داخلها بأن حياتها رواية تستحق الذكر والنشر، فلماذا لا تكتبها وتترك للقلم أن يتحرك على سجيته , ثم لينشغل النقاد بالبحث عن التقنيات). هل هذا رأي تركي الحمد وقد وضعه كلمات في فم السارد ترجمة لأفكار لطيفة ؟ وهل يشاركه الرأي جميع الروائيين والروائيات؟ إن كانوا بالفعل متفقين مع الحمد , فهذا تأكيد لعدم حاجتهم إلى النقاد والمنظرين والكلام الكثير عن أهمية التقنية في تخليق العوالم المتخيلة في الرواية والقصة , وتأكيد على نحو خاص لخطأ تنظير مارك شورر الذي تتعدى وظيفة التقنية السردية وفقا له مسألة الاختيار والبناء أو التحريف وفرض الشكل والإيقاع على عالم الحدث (التجربة) لتشمل اكتشاف الدلالات الفكرية والأخلاقية بالإضافة إلى احتوائها . التقنية السردية ،حسب شورر، عملية عميقة وأولية وليس شيئا ثانويا ينبغي ألا يعيره المبدع اهتمامه . بواسطة التقنية تتشيأ وتتخلق التجربة بنى وعوالم قابلة للإدراك والفهم والتفاعل معها والانفعال بها من قبل القارئ أيضا . فهل شورر ومنظرو الإبداع السردي يبالغون في أهمية تقنيات السرد , وإنها في الحقيقة شئ لا ينبغي أن يعيره المبدع اهتمامه؟ إذا كان الأمر كذلك , فكيف تتم عملية الكتابة السردية ؟ هل "السجية" لوحدها هي المحرك وما يعول عليه لحظة الكتابة وتشكيل بمعزل عن وعي المبدع أنه يكتب داخل أطر فن له تقنياته وجمالياته و تقاليده وخصائصه الجينيرية والتي هي ليست حتى خارج نطاق المعرفة لدى القارئ الذي يقبل على أي منجز سردي جديد أو لم يقرأه من قبل وفي ذهنه شحنة من توقعات معينة تمتد جذورها إلى مواجهات سابقة مع أعمال سردية أخرى؟ ومرة أخرى قد نكون وقعنا في إشكالية عدم وضوح الرؤية بالنسبة لهذا المحور، فقد ظن البعض أننا نرغب التحدث عن جدلية المبدع والناقد، وهذا مالم نقصدة فقد أثير هذا المحور وشبعت منه الصحافة، ولكننا نرغب في التعرف على آراء من يكتب الرواية ومن يتجادل معها، ومن هو على قرب من المشهد الروائي، في كيفية كتابة الرواية، وهل الروائي يعتمد على فن السرد ونظرياته، هل يكتب بعد أن يقرأ نظريات النقد حول الرواية، مثلاً كيف تتحدث الشخصية وكيف يرسم المكان وكيف ينسج الحدث... وغيرها من التساؤلات حول فن كتابة الرواية؟ أم أن الروائي أو من يكتب لأول مرة يعتمد على تجربته في الحياة والكم المتراكم من الثقافة والوعي، إضافة إلى قراءة تجارب الآخرين؟ أم يعتمد على روائيين معروفين كنجيب محفوظ على سبيل المثال، ويعتبرهم مثالاً يقتدى فيكتب على منواله.. هذا ما أردنا بالتحديد، وبالتأكيد لم نصل إلى مبتغانا، فلعلنا نثير هذه التساؤلات مرة أخرى، ومع كتاب آخرين، إن أسعفنا الحظ. الابداع فن سابق بداية قال القاص والناقد ناصر الجاسم إن الكتابة الإبداعية فن سابق والكتابة النقدية فن لاحق، والناقد معلم احتياطي، والمذاهب الأدبية شيدها المبدعون ثم هاجروا عنها وأبقوها للنقاد ليحددوا تاريخ البداية والنهاية فيها. فالنقد فعل متابعة واستخلاص واستنتاج وتقييم وتقويم ومحاكمة، وهذه الأفعال كلها لا تجري إ لا على أشياء قد تم الانتهاء منها، أو أنها حدثت وانتهت. وأضاف الجاسم إن المبدع كائن ازدواجي الموهبة، فهو مبدع وناقد لإبداعه في آن واحد، أي أن الروح النقدية كامنة في داخله، إن شاء أظهرها من مخبئها وإن شاء أبقاها في مكمنها، وفي الغالب يبقيها كامنة، وقرار الإبقاء عليها كامنة قد لا يكون مقصوداً إذا علمنا أن تلك الروح النقدية قد تكونت بالفطرة أو من القراءة المستديمة أو هي نتاج الذوق الخاص للمبدع. التفاعل مع النص أما الكاتبة مريم الغامدي فقالت ينقسم الروائيون إلى قسمين من حيث فهمهم للكتابة الروائية والسرد الروائي وممارستهم إياها، فقد ينتج أحدهم نصاً، ومن خلاله تتجلى لنا طريقة محددة يمكن أن نميز بها كتاباته. وتبرز هذه الطريقة في اعتماده أسلوباً خاصاً وعوالم خاصة يقوم بإنتاجها ويتطبع بها نصه وهذا الكاتب تهمه التقنيات الفنية للرواية ويستغل كل التراكيب وأشكال التفاعل النصي ومستوياته وبنياته كما تظهر لديه تجربة الزمن كوعي وموقف وليس تصوراً فقط أو إدانة أو نظرة سلبية وهذا الروائي هو الأكثر نجاحاً وشهرة لأنه أكثر منهجية وله منطلقاته الفنية الخاصة وأهداف يسعى إلى تحقيقها من خلال الاستلهام وتكوين التصور. وتشير الغامدي إلى أن الفئة الثانية هي الأكثر إنتاجاً والأقل تطوراً وهذا الحكم ليس من منطلق المفاضلة بين الفئتين لأننا لا نملك معايير محددة لذلك خاصة وأن المعيار الأساسي يظل كامناً في النص. وأضافت الغامدي تتميز الفئة الثانية باختلاف قدراتها الفنية الروائية بعضها عن بعض لغة وأسلوباً وطرائق كتابة وعوالم متخيلة لأنها تنطلق في سردياتها من هيمنة النزعة الفردية والخلاص النفسي الفردي من حالة إبداعية معينة فلا يستوقفها الرأي الناقد لأنها قد لجأت إلى البسيط من السرد المرتخي والشفاف وكسر الوتيرة الفنية للسرد الذي يوقعها أحياناً في الحشو والاستطراد والتطور المفاجئ. خلفية جمالية الدكتور حسين المناصرة قال كل نص سردي يفرض تقنياته وجمالياته الفنية الخاصة به، ومن ثم فإن الناقد الأفضل هو من يتفاعل مع هذه الخصوصية المتولدة ذاتياً في النصر السردي، فالرواية على سبيل المثال نص هجين متعدد الجماليات، لذلك يصعب أن نخضع هذه الخصوصية الهجينة لتنظير نقدي مقنن أو مبرمج ومع ذلك فإن أي تنظير نقدي للإبداع السردي يجب أن لا يخيف المبدع، لأن مثل هذا التنظير سيشكل خلفية جمالية ما، حيث لا بد أن تفيد أي مبدع يكتب نصاً سردياً مهما كان نوع هذا الفن. وأضاف المناصرة إن للسرد جماليات لغوية وفنية لا تقل عن جماليات الشعر، ولكنني لا أظن أن كتابة السرد هي طريقة من يفشل في كتابة الشعر كما يقال، مشيراً إلى أن السجية هي خميرة مهمة في الكتابة السردية وهي الشرارة الأولى التي تشعل التجربة الإبداعية.. والمؤثرات المتراكمة هي مكمل السجية وهي الأساس في قوة العمل الأدبي وتكامله، لأن ثقافة المبدع من خلال قراءاته للآخرين، والتفاعل مع الحياة تشكل بنية أساسية في أي عمل أدبي جيد. تطور حقيقي ويقول القاص أحمد الشدوي إن فكرة تقنيات السرد الثابتة والمقولبة، فكرة ليست سديدة على إطلاقها. إنها تشبه زعم أن الألفاظ لها معان ثابتة، وبالتالي يمكن ربطها بالأرقام والعمليات الرياضية، فإذا كنا نؤمن بأن اللغة ليست مغلقة، فإن السرد لا يمكن قبول القولبة في تقنياته. ويضيف الشدوي إن منظر الإبداع السردي البارع، هو ذلك المنظر الذي يتبع الإبداع بعد حدوثه، وليس قبله وبذلك يفتح الطريق أمام تطور حقيقي في تقنيات السرد. إن فكرة التطابق التي يحملها البعض هي في حد ذاتها فكرة بائسة، حيث يقول الدكتور مصطفى ناصف في كتابه خصام مع النقاد (إننا لا نملك الكثير من المبادئ التي تفيد الآخرين أو ترشدهم) ولذلك فإن المبالغة في الاهتمام بتقنيات السرد هي ادعاء غير ذي بال من أننا نملك الكثير من التقنيات التي تفيد المبدعين، ولأن نشاط اللغة ليس واضحاً إلا بوضوح المرافق الخارجية، فإن المنظر الحقيقي هو الذي يعتبر الإبداع أحد مكونات البيئة الخارجية لتراكم تقنيات السرد. ويستشهد الشدوي مرة أخرى بكاتب آخر هو همنجواي حيث يقول (تبدو الكتابة عملية سهلة، غير أنها في الواقع أشق الأعمال في العالم). ويواصل الشدوي قائلاً ذلك أن الكتابة السردية مرتبطة ارتباطاً كبيراً باللغة، فمن كان صديقاً للغة أمكنه الكتابة السردية. إن صديق اللغة يعمل على عكس سجان اللغة، ففي حالة الصداقة سيتجه إلى ما يتمنى من تراكيب وارفة بالجمال والمعنى. ويستدرك قائلاً إن الكتابة السردية تبدأ بالحلم والرغبة مقرونة بالصداقة مع اللغة. ورغم أن الكتابة عشق ولذة، فإنها تنبع من الألم والإحساس به، لكنها لا يمكن أن تكون كتابة مفيدة ما لم نفك سحر الحروف، وقوة الكلمة، ولذلك فإنها السهل الممتنع. فإذا أصبح الشخص يدرك أن حقيقة اللغة هي في فنيتها فإنه يسير في اتجاه الكتابة السردية. وهذا الإدراك يجعل من السجية عنصراً واحداً من عناصر الاستعداد للكتابة. ويضيف الشدوي إن المثيرات المتراكمة لدى السارد تأخذ خطين متوازيين، فمن ناحية لا بد أن تكون لديه القدرة على الإحساس بالمكان وبالزمان، ففيهما أماكن خصبة ومحرضة على الكتابة، ومن ناحية يرى في الموقف الذي يمر أمامه ما لا يراه غيره، فقد يقف مندهشاً أمام مناظر لا تثير شيئاً في غيره، ولذلك فإن الإبداع يكمن في الكتابة عن المألوف بطريقة غير مألوفة. ويستخلص الشدوي من كل ذلك قوله إن استحضار هذه المؤثرات أو القدرة على استحضارها في الوقت المحدد هي ما يميز كاتباً عن غيره. الافق المختلف ويقول د. عالي القرشي إن كلام لطيفة الأثلة في رواية تركي الحمد جاء منسجماً مع سياق الرواية، مسجلاً لحظة الانعتاق من الأطر، حتى في رواية المعاناة، لأن البطلة لابد أن تتجاوز هذه القيود التي يصطنعها المجتمع، فإذا تمردت عليها فيما منحه لها السارد فلن تمكن قيود الكلام من الأخذ بتلابيبها. ويستدرك القرشي قائلاً لكننا حين ننقل ذلك إلى مستوى خارج الرواية، فإن الأمر يختلف، إذ مهما تجاوز المبدع واخترق وابتكر.. وهذا أمر ضروري فإن كل ذلك يعتبر مواجهة مع أعمال سابقة ومرويات ومشاهدات، فلو لم تكن له القدرة على تأمل الموافقة ليصهر منها المخالفة لما تحقق له القدرة على الإبداع، وهو الأمر الذي نجده في التجارب الأولى، إلا في حالات يكون المبدع قارئاً لكثير من الأعمال، فقد يخلق في روايته الأولى الأفق المختلف.. ويخلص القرشي إلى القول لذا فإن المسألة تقع بين حافتين الأولى حافة التقليد، والثانية حافة العبث، فما لم تكن العلاقة من السابق إلى اللاحق علاقة الوعي بالمتجاوز والوعي بالأفق المخترق فإن التجربة سترتهن لأحد الجانبين اللذين لا يلامسان الإبداع الفاعل المتجاوز. حسين المناصرة ناصر الجاسم