وقفن في محاذاة حافة الرصيف يتحاشين دفعات الرائحين والغادين في ممر ضيق يئن بجحافل البشر. أمامهن صفٌ لا ينتهي من المحال الضيقة والمكتبات الصغيرة، تختلط فيه رائحة الأطعمة برائحة أحبار ماكينات التصوير. يطل من أعينهن خجل عابث وعلى ثغورهن ابتسامات طفلة وضحكات خافتة، تروح وتجيء في حوار لا يسمعه سواهن. ثلاث فتيات غادرن للتو، في ما تحكيه ملامحهن، سني الطفولة وأقبلن مهرولات - برواية أجسادهن - على أعتاب شباب غض. على رؤوسهن أغطية ملونة تنفلت من حدودها الدقيقة خصلات من شعور ملساء منطفئة اللمعان، وفي أعلى أذرعهن الملتفة حول بضعة ملزمات متآكلة الحواف، تستقر حقائب جلدية رخيصة. مالت أوسطهن برأسها القرمزي الغطاء على إحدى صاحبتيها، تهمس في أذنها شيئاً فيما امتد ذراعها يدفعها باتجاه أحد المحال. راغت الفتاة من ذراع صاحبتها الملحاح، ودارت على ساقين رشيقتين معلنة في حسم صامت: لن أذهب. حدجتها الوسطى بنظرة مستسلمة لا تخلو من تأنيب: فتاة لا نفع من ورائها! ثم التفتت إلى جارتها الأخرى تهمس لها بالكلمات نفسها وتدفعها بكلتا يديها، كأنما قدَّرت أن يداً واحدةً لا تكفي لإنجاز المهمة. تحرَّكت الفتاة خطوات الى الأمام، ثم استدارت عائدة وأصابعها فوق فمها، تكتم أنفاس ضحكة كادت تفلت في رعونة: لا أستطيع... اذهبي أنتِ. عادت الفتيات الصغيرات الى وقفتهن الحائرة. يتهامسن حيناً ويتداولن حيناً ويتقافزن إلى الأمام والخلف متضاحكات، وأعينهن تنزلق إلى صف المحال تتجول بين أرجائه ثم تعود فتستقر في اتجاه بعينه. في وقفتهن هذه، مرَّت أمامهن امرأة شابة تقطع نهر البشر بسرعة من دون التفات. قررت قرمزية الرأس أمراً ونفَّذته في الحال. أسرعت إلى جوار المرأة الشابة تهدئ سرعتها بصوت صغير: من فضلك! التفتت المرأة من دون أن تقف تريد أن تطمئن أولاً لمن الصوت. تباطأت خطواتها وصوَّبت إلى صاحبة الصوت عينين متسائلتين فتشجعت الفتاة قليلاً: هل تعرفين بكم هذه؟ تتبعت المرأة إيماءة رأس الفتاة وانتهى بها النظر إلى صرح من حلوى ساخنة تَعِد بمذاق شهي يطل من وراء زجاج أحد المحال الذي يعج بالزبائن. عادت عينا المرأة الشابة من رحلتها القصيرة تغشاهما حيرة متعجبة: لا أعرف! أجابت باقتضاب ثم، وكأنما تستكشف أمراً ملغزاً: لما لا تسألين البائع؟ غاضت ابتسامة الفتاة وكساها حياءٌ وردي فلم ترُد واكتفت بهزة من رأسها، عادت بعدها إلى صويحباتها تتأرجح يمنة ويسرة علامة الفشل: لا فائدة. بعد أن قطعت المرأة الشابة خطوات عدة في طريقها، لوَت رأسها في اتجاه الفتيات الثلاث. ألفتهن قد تقاربت رؤوسهن وأخرجن من الحقائب أوراقاً مالية صغيرة مجعّدة، أخذن يهندمنها ويرتبن أطرافها لتكتسب مظهراً أفضل وربما قيمة أعلى! اختفى من عينيها العجب واستقرت مكانه ابتسامة مشفقة، وقد اتضح لها سر السؤال وسبب الحياء، شهية ضخمة وقليل من المال. تذكرت أياماً ليست بعيدة كانت في مثل حالهن. همَّت بالعودة إليهن في اللحظة التي تحركت فيها الفتيات صوب البائع.