في الصباح يمضي إلى عمله. الطريق نفسه لا يغيره. حارة طويلة متعرجة تنتهي إلى شارع واسع مرصوف. يمر بنساء أمام البيوت يتابعن صغارهن في الطريق إلى المدرسة، وينادين عليهم، يحذرنهم من العربات في الشارع العام، الأولاد الذين استغرقهم الكلام لا يلتفتون. بنت صغيرة بزيّ المدرسة الأزرق وحقيبة الكتب على ظهرها، تمسك بيد واحد من الأولاد، تستدير مع كل نداء وتلوح بيدها الخالية. يقف على ناصية الحارة متأهباً لعبور الشارع إلى الرصيف المقابل حيث موقف الأوتوبيس. السيارات تمضي في اتجاهين. يطول انتظاره قليلاً، ثم في لحظة يعبر مسرعاً. يحشر نفسه بين الواقفين تحت مظلة المحطة. ويراه. البيت القائم على ناصية الحارة وكان يقف أمامه من لحظات في انتظار عبور الشارع، جانبه الأيمن منتفخ ومتصدع، به شق طولي بخط رفيع ينتهي قبل سقف المبنى بدورين. واجهة البيت تطل عليه في وقفته، يرمقها مسترخياً وقد شردت أفكاره: «وأقف بجواره. أنظر إليه ولا أراه». تبدو واجهة البيت سليمة، وربما كان بها شقوق لا يلمحها من مكانه. فقط بلكونة الدور الثاني وكانت بعرض البيت، انحنى طرفها المطل على الحارة، وسحب في انحناءته كتلة كبيرة متماسكة من الجدار فخرجت قليلاً عن مسار باقي الواجهة. امرأة ممتلئة تقف في البلكونة بالطرف السليم تنشر الغسيل، تستند بعدها بذراعيها إلى سياج البلكونة تنظر إلى الشارع، لا تلتفت إلى الطرف الآخر كأنما اعتادت انحناءته، هو أيضاً اعتادها، رغم ذلك يحس بالقلق في كل مرة ينظر إليه، ولا تستقر قدماه في وقفته بالمحطة، تأتي أوتوبيسات ويتزاحم الواقفون على أبوابها، تزعجه ولا يستريح للسكون الذي يعقب الضجة، هو وقد أصبح وحده في مواجهة البيت يتبادلان النظر، والبيت تعرى، خلع عنه ما تبقى من رونق قديم، كاشفاً عن شقوقه وتصدعه كأنما يزهو بها. سنتان والبلكونة توشك أن تهوي ولا تهوي. وتأتي فترات الإجازة والمرض ويستريح من رؤيته، لا يخطر على باله، وحتى من دون الإجازات والمرض كانت زحمة العمل في تقفيل الحسابات بالمصلحة والتي تستمر أياماً كل شهر لا تسمح له بالتفكير في شيء آخر. وبعد غيبة يراه. يكون هناك دائماً ما يجعله يلتفت إليه، يلمح قطاً يسير على السياج، تصيح امرأة من بلكونة تنادي بائعاً في الشارع وتدلي له السبت، ودائماً يحس أن تغيراً حدث، لا يدري ما هو، ويكون في رقدته ليلاً وقبل أن يروح في النوم يرى البيت هناك على الناصية مائلاً على الحارة الضيقة، والشق الطويل، وماذا تغير؟. هي البلكونة، ازداد انحناؤها وتشقق خشب أرضيتها، قطع منها نافرة مدلاة تتأرجح خفيفاً ولا تسقط. والقط الأبيض يتثاءب بمدخل البلكونة، ويراه مرة أخرى يتمسح بساقي المرأة الممتلئة، والمرأة تبتسم ولا تلتفت إليه، ويبتعد مقترباً من طرف البلكونة المحني، يتوقف مع بداية الانحناء ويموء، يتقوس ذيله نافشاً شعره كأنما أحس الخطر، يتقهقر، يرجع إلى مكانه عند ساقي المرأة. تداعبه بقدمها ولا يستجيب. كل ليلة يقول والنعاس يثقل عليه إنه لن يمر بجوار البيت بعد ذلك، ولن يقف أبداً أمامه في انتظار خلو الشارع من السيارات، يستطيع أن يعبر من أي مكان آخر، ودائماً ينسى، لا ينتبه وهو يقف على رصيفه ينتظر العبور، ربما لكثرة ما حدق إليه. يبدو الشق الطويل وكأن فوهته تتسع من وقت لآخر، وتساقطت الطبقة الجيرية عن جانبيه وبعدها القشرة الأسمنتية، وبدا جوفه المعتم بنتؤاته الداكنة كأسنان فاسدة. يحدث الانهيار في لحظة، يأتي خطفاً لا يحس به أحد إلا بعد وقوعه. ويكون في وقفته مثل كل صباح متأهباً لعبور الشارع، يرمق المحطة في الجانب الآخر والزحام يشتد بها، ويلمح أوتوبيسه مقبلاً، والسيارات تمر مسرعة، لا ينتبه لقطع الحجارة الصغيرة تتساقط غير بعيد منه، ولا للصرير الذي يأتي خافتاً، ثم تدوي الطقطقة. يرفع وجهه مبهوراً، يحس قبل أن يرى ما رآه أن اللحظة التي انتظرها جاءت أخيراً. البلكونة المحنية فردت جناحيها، وجوف المبنى يتفتت، وسحابة كثيفة من الغبار تتأهب للانطلاق، رفع يده وبها حقيبة الأوراق يحمي وجهه. جسده ساكن. لا يحس بشيء. والحقيبة على وجهه. يكاد الغبار أن يخنقه. الضجة شديدة خارج الأحجار التي يرقد تحتها. صياح وصراخ. الأصوات قريبة ثم ابتعدت. تخفت وتختفي.