لم تكن إجازة نهاية الأسبوع. ولا يوماً من أيام الأعياد. ولا حتى نهاراً صيفياً مشمساً يستفزك للخروج والاستجمام... كان يوماً ربيعياً عادياً فاتحاً أبوابه كالعادة أمام المدارس والجامعات والأشغال... ومع هذا الآلاف كانوا هناك، صغاراً وكباراً... وخصوصاً عشاق الفن السابع. الصغار أتوا للاستمتاع بنشاطات مسلية مخصصة لهم. والكبار من أصحاب القلوب القوية كانوا على موعد مع ألعاب تمتحن قدراتهم. أما أولئك الذين يدعون «سينيفيل» (هواة السينما) فالساحة ساحتهم حتى وان اتخذ المكان طابعاً تجارياً ترفيهياً اكثر منه طابعاً سينمائياً بحتاً. ففي «استوديوات يونيفرسال هوليوود»، اي زائر يمكنه ان يعيش حلم النجومية: سجادة مديدة حمراء تقودك الى مدخل الاستوديو قبل ان تنطلق الموسيقى الافتتاحية لأفلام «يونيفرسال» المعتادة، فاتحة امامك ابواب عالم آخر: عالم مألوف ان كنت من محبي الفن السابع، لتنطلق في رحلة على ارض بعض اشهر الأفلام السينمائية. تقفز عيناك بين زاوية وأخرى. تحتار من اين تبدأ. فهنا عالم «جيراسيك بارك» الذي يأخذك الى الأدغال حيث تطل فجأة ديناصورات ذات حجم كبير تعيدك الى عصر ما قبل البشرية. وهنا كهف فيلم «المومياء» (الأميركي طبعاً لا المصري) حيث تنطلق في رحلة مجنونة عبر سكة حديد تطير بك بين القبور الى درجة تكاد تشعر ان قلبك قد يتوقف. وهنا العاب «ال سمبسون» التي تدخلك الى العالم السحري اللئيم لهذه العائلة الشهيرة. وهنا ركن الخدع البصرية الذي يكشف امامك اسراراً كثيرة لمشاهد بدت بالنسبة اليك مشاهدَ خطيرة في الأفلام لكنها لم تكن بالنسبة الى صناع الفيلم اكثر من خدعة... وبين كل هذه النشاطات تبقى «جولة الاستوديو» الأكثر ترقباً. هنا ستكون على تماس مع مواقع تصوير افلام معروفة. بعضها لا يزال قيد الاستعمال. وبعضها صار اليوم جزءاً من ديكور هذا البارك. تترك الألعاب وراءك وتنطلق في قطار صغير مكشوف لتتنقل بين ديكور فيلم وآخر. يُحذّر الدليل راكبي القطار من ان أولئك الذين يجلسون على المقاعد الزرقاء سيتبللون. تنظر الى مقعدك وتندب حظك على خيارك السيئ. ثم تتنبّه الى انك لست الوحيد الذي اختار المقعد «الملغوم»، فالمقاعد كلها زرقاء. وقبل ان تأخذ نفساً عميقاً وترتاح، بما ان الجميع متساوون، وما ستواجهه سيواجه غيرك، يفاجئك شلال ضخم يتوجه ناحيتك، وحين يداهمك الخطر، إذ يصبح على بعد خطوة منك، يختفي الشلال ولا تشعر الا برذاذه. يتابع القطار سيره ويتابع الدليل مقالبه من دون ان ينسى تزويدنا بالمعلومات. فهذا شارع مشمس يتحول بكبسة زر الى شارع ممطر. وهذه مبانٍ نيويوركية ساهمت في ان تشكل ديكوراً لأفلام كثيرة مثل «بروس القوي» لجيم كاري. وهذا هو البيت الشهير في فيلم «بسيكو» لألفرد هيتشكوك. وهنا قرية مكسيكية استخدمت في اكثر من شريط سينمائي. وهذه ساعة فيلم «عودة الى المستقبل» الشهيرة. وهذا موقع تصوير مسلسل «ربات بيوت يائسات» او لنكن أكثر دقة تخوم الموقع بما ان الدخول الى هناك كان يومها متعذراً لضرورات التصوير. نهاية العالم مساحات شاسعة ومبانٍ جميلة من طرازات معمارية متنوعة يسير حولها القطار قبل ان يصل الى مكان أشبه بنهاية العالم. للوهلة الأولى تظن انك في باحة «كينغ كونغ» التي أكلها الحريق في حزيران (يونيو) 2008 من دون ان يخلّف اي قتيل على رغم ان 25 ألف زائر كانوا يومها في المكان. لكنّ صوت الدليل سرعان ما يزيل شكوكك: «إننا في باحة فيلم «حرب العوالم» لستيفن سبيلبرغ». تضرب يداً على يد وتقول في نفسك كيف فاتك ان تتعرف إلى موقع احد اشهر افلام هوليوود. تنظر الى حطام الطائرة العملاقة. «كل شيء حقيقي» يقول الدليل. «الطائرة والسيارات كلها فجّرت من اجل الفيلم». تتذكر توم كروز وبطولاته في ارض المعركة. تستعيد مشاهد الدمار. تشمّ رائحة البارود. وقبل ان تدخل اكثر في الجو، يسير القطار مجدداً الى موقع آخر. يقف عند حلبة فيلم «سريع وغاضب». تبدأ السيارات استعراضها الراقص على بعد خطوات قليلة منك. تظن انها ستطير صوبك. تشعر بالنار المشتعلة، ثم يهمد كل شيء لتتابع الى محطة جديدة: مترو الأنفاق. هنا تختبر وقع الهزات الأرضية كأنك في فيلم «هزة أرضية». من دون اي سابق إنذار يبدأ القطار بالتمايل شمالاً ويميناً. تنقلب عربة الحمولة الراكنة الى يسارك. ينفجر انبوب المياه على يمينك. تغرق السكة الحديد خلفك. تنشق الأرض قربك... والقطار لا يزال يتمايل. ثم، حين تبدأ في التفكير في احتمال ان يكون شيء من هذا حقيقياً، يعود كل شيء الى نصابه، فتتنفس الصعداء وتحسّ بنشوة كبيرة، لتعود أدراجك سليماً معافى حتى وان كنت ظننت انك لامست الخطر. حين تكون في لوس انجليس كل شيء في هذا الاستوديو الواقع على هضبة من هضبات لوس انجليس هوليوودي بامتياز. هنا يتجاور الحلم والحقيقة... العامل التجاري والسينمائي... الجدّ والتسلية... الضخامة والإبهار. أوليست هذه هي الأسس التي بنيت عليها المنظومة الهوليوودية بامتياز؟ المهم هنا، ان هوليوود لا تعود سحراً جميلاً بعيد المنال، إنما يصبح باستطاعة اي كان ان يعيش متعة دخول كواليس عالم الفن السابع ومن البوابة العريضة: بوابة عاصمة السينما. حتى، وان كان مدركاً ان ما يعيشه ليس الا الجانب السياحي الذي يدرّ مزيداً من الأرباح على هذه الشركة السينمائية العملاقة التي تعتبر اليوم ثاني شركة إنتاج حية، وواحدة من 7 شركات تعدّ الأبرز في العالم. ولكن، إذا كانت أفلام «يونيفرسال» خلقت طوال العقود الاولى من القرن العشرين حلماً سينمائياً أخاذاً... فإن جمهور الستينات والسبعينات يتذكر حلماً آخر، خلقته عبارة ملأت الشاشة عند نهاية كل فيلم من أفلام «يونيفرسال»: «حين تكونون في لوس انجليس زوروا استوديوات يونيفرسال». هذه العبارة خلقت دائماً انطباعاً لدى المشاهدين بأن هذه الاستوديوات المضيافة الى هذا الحدّ هي الأكبر... بل تكاد ان تكون «ديزني لاند السينما»... لكن الحقيقة شيء آخر، حتى وان كان زائر الاستوديوات سيغفل عنها امام ضخامة واستعراضية ما يشاهد. ف «يونيفرسال» كانت دائماً في الصف الثاني الى جانب «كولومبيا» و «يونايتد آرتستز» و «ريبابليك» بعد الصف الاول الذي شغلته الشركات الأم الخمسة: «مترو» و «بارامونت» و «فوكس» و «وارنر براذرز» و «ار. كي. او راديو». ولكن بما ان لكل استوديو ضخم اسطورته، أدى هذه المهمة بالنسبة الى «يونيفرسال» ايرفينغ تالبرغ الأسطوري، إذ انتقل اليها ذات عام من «مترو»، فنهضت معه تلك النهضة الكبيرة في الأربعينات والخمسينات. ثم هدأ كل شيء خلال النصف الاول من الستينات حين ركزت «يونيفرسال» على الانتاج التلفزيوني وخففت من إنتاجها السينمائي الى ما لا يزيد عن 15 فيلماً سنوياً... لكن استعراضية الاستوديو الذي صار مزاراً عاماً منذ سنوات عديدة، لا تكشف شيئاً عن هذا التاريخ. ولا كذلك عن اسماء قد تعني نخبة المشاهدين، ولكن ليس الجمهور العريض. فأن تكون «يونيفرسال» منتجة اهم أفلام جول داسان او دوغلاس سيرك او ابرز أفلام الرعب ذات القسط الأكبر من الجدية أو أول فيلم جمع دوريس داي بروك هدسون او اول فيلم ايضاً جمع بين جيمس ستيوارت وانطوني مان، او آخر افلام هيتشكوك واول افلام سبيلبرغ، والشركة التي أطلقت جورج لوكاس قبل جورج لوكاس في «اميركان غرافيتي»... امر من الصعب تلمسه في المعرض الدائم والمبدع. في المقابل تبدو آثار سينما الكوارث والرعب والانتاجات الضخمة ماثلة... وأيضاً – الى حد ما - تاريخ «يونيفرسال» التي تأسست في 8 حزيران (يونيو) عام 1912 لدى اندماج شركتي «آي ام بي» و «نيويورك موشن بكتشرز»، لتتخصص في إنتاج الأفلام القصيرة والمسلسلات السينمائية (وهي أفلام مسلسلة قصيرة كانت تعرض قبل الفيلم الطويل). ولكن بالتدريج راحت الشركة توسع نشاطاتها مستقطبة عدداً من اكبر مخرجي المرحلة مثل آلان دوان وجون فورد وفون شتروهايم وموريس تورنور. وكان ذلك حتى قبل دخول «طفل هوليوود المعجزة» ايرفينغ تالبرغ على الخط، محولاً «يونيفرسال» الى منتج ضخم لنجاحات تجارية عالمية بدءاً من «جنون النساء» لشتروهايم الى «احدب نوتردام» «وكل شيء هادئ على الجبهة الغربية»... وكانت هذه الأعمال كافية لإطلاق «يونيفرسال» شركة شديدة الخصوصية في فضاء السينما الهوليوودية... وشركة سخية أيضاً. لكن هذا كله كان لا بدّ له من ان يتوقف عام 1963، بعد شراء شركة «إم. سي. آي» ل «يونيفرسال» فارضة عليها سياسة تقشف، أعادت الاستوديوات، من ناحية الى استراتيجية عقلانية، فتحت مجالاً واسعاً للإنتاج التلفزيوني، ومن ناحية ثانية الى عالم من السينما العقلانية التي ربطت واقع «يونيفرسال» بتاريخ لها غير بعيد، حين كانت من الشركات التي وقفت الى جانب تقدمية الرئيس روزفلت خلال سنوات الثلاثين وما بعدها. ومن هنا لم يكن غريباً ان تكون «يونيفرسال» كما «وارنر» من المؤسسات الهوليوودية التي طاولتها سهام اللجنة الماكارثية بقوة بين الأربعينات والخمسينات... لكنّ تاريخ «يونيفرسال» المشرق هذا لا مكان له في حمأة الاستعراض. ولا عجب ان يكون احدث إنتاجات هذه الشركة فيلم «روبن هوود» الذي يفتتح بعد اسابيع أحد اعرق مهرجانات السينما في العالم: مهرجان كان. ولكن مهلاً، هل قلنا «روبن هوود» في «كان»؟ فالمعروف عن المهرجان الفرنسي ابتعاده من عالم هوليوود، والمعروف عن «روبن هوود» كونه قصة شعبية استهلكتها الشاشة كثيراً. فما السرّ في ذلك؟ هل نجحت «يونيفرسال» في جذب «كان» ام ان المهرجان الفرنسي عرف كيف يجعل هوليوود تفكر بلغة مختلفة؟