التملك هو الفعل المعاكس للرغبة. وهذا الأمر هو ضد الهيئة الأولى، التي ندركها منه، إذ لا يحقق المتملكون رغباتهم، فيلجأون إلى شكل من المكسب السلطوي، ليس هو المكسب الفعلي الذي يريدونه، لكنه يجعل منهم، فقط، أشخاصاً متوازنين ظاهرياً. ينطبق هذا في شكل ما، على تفكيرنا تجاه سورية كقضية إنسانية نهائية، تُشكل مع فجائعيتها سلطة الحزن والحقيقة، فكلما زادت رغبتنا، في تملك تلك القضية، بذلك الشكل الذي يجعلنا لا ننفصل في سيرتنا عنها، ابتعدنا عن رغباتنا البشرية البديهية. ما يتناقض بمبدأه مع سعي الفرد إلى الثورة، في نواحي حياته. أي أن التملك هو ضد الحرية، حرية الشخص المتملك ذاته؛ ونحن في حال التخلي عن تملكنا المتشنج هذا، تتولد في داخلنا رغبات دفنية، مناقضة لمعنى الأنانية والتملك، تجاه الأشياء العامة التي يتقاسمها الجميع، ويصرون على الحصول عليها. وليس المهم، هنا، أنْ نُنعت بأوصاف تقترن بقدسية قضية سورية العادلة، والتي تجاوز العدل المطالب، في ركونه إليها، الحيز الوجودي الواقعي، حتى أصبح متخيلاً، واستفزازياً في عدم حصوله. أو في عدم تكرار طلبه، في شكل يومي. لن نصبح مقدّسين بمجرد التماهي مع المقدس. إن الرغبات الفردية، في أمكنة جديدة، أمكنة لجأ إليها الهاربون من جحيم النظام السوري، هي رغبات بسيطة، أنكرناها على أنفسنا، حتى أصبح من يمارسها موضع شبهة من الآخرين. هذا تماماً ما يمكن أن يحدث في أي مجاعة من المجاعات العالمية، إذ يتربص البعض بمن يأكلون، وكأنهم هم من يرتكبون الجريمة، جريمة منع الطعام عن الآخر. مع أن فعل الأكل، بكل غرائزيته الفطرية هو فعل اعتيادي روتيني، لا ينبغي أن يكون تنفيذه، ذا تأثير مضاد في الآخر. بعد كل الظلم المتحقق في سورية، وتجاه السوريين، يبدو أن الرغبات اليومية تتقلص وتنكمش، لتصبح ردهة سوداء لا مكان للخوض في شرعيتها، رغبة الحب أو الجنس أو الطعام، وحتى الخيلاء باكتساب ماديات جديدة، كلها رغبات محظورة وممنوعة، إذ أعلن العقل الجمعي رفضه للرغبة الفردية، وبات يجلد نفسه، إن تم أمامه أي شكل علني يزاول فيه الفرد الرغبة، أو يتلذذ بمضامينها. أليست هذه العقلية، هي ذاتها التي حاربتها الثورة؟ والتي أرغمنا النظام السوري، على ابتلاعها كل صباح، كحبوب الأسبرين، مع الأناشيد الوطنية، والابتهالات الشمولية في عبودية الأب القائد. إن نظام الأسد، طلانا، وأجسادنا وثيابنا بنوع واحد من الزيوت، أو الصابون، أو حتى مساحيق الغسيل، ويبدو أن هذه الماديات العادية، التي أمكن لأي فرد في العالم، امتلاك أنواع متعددة منها، له أن يختار أفضلها أو الأسوأ منها، قد حرّمت في زمن البعث. لقد وضعنا جميعاً تحت حجر الطحن، نرتدي الثياب ذاتها، وربما وفق القياس ذاته أيضاً، نتحرك في الوطن الكبير كأناس متشابهين، وناحلين، بثياب رمادية، ونأكل من رغيف خبز واحد كبير، وجدنا فيه بقايا بلاستيكية من أكياس الطحين. لقد كنا أشياء مصنوعة، من لحم ودم، لم نعرف ما معنى كوننا بشراً. هذه الآلية القمعية، في قتل الرغبة الفردية، نحن اليوم نجدد نذورها خارج سورية، لدرجة أصبحت فيه السعادة تهمة. كيف يمكن السوري أن يكون سعيداً خارج وطنه، أو ما يسمى السجن السوري الكبير؟. حتى أن إحداهن، تغنّت في موقع للتواصل الاجتماعي، أن صديقاتها الآن في سجون النظام، سيتمكنّ من استخدام إحدى حاجياتها، التي تركتها هناك. هي تفترض هذا، أي تعاسة تلك، وأي عار إنساني هذا، في نكرانه للبهجة والحياة.