أعلن البطريرك الماروني بشارة الراعي أخيراً، من مقره في بكركي، مذكرة شددت على العيش المشترك في لبنان وفق ثوابت الحرية والمساواة في المشاركة وحفظ التعددية، كما أكد الالتزام بالميثاق الوطني محذّراً من «إقحام لبنان في قضايا الجوار من دون تبصّر». هنا قراءة في المذكرة: يسعدنا أن نرى بكركي في وسط لبنان، اي في أعلاه، حيث ترى أبعد وتُرى أوضح، ونسأل الله العافية من خداع البصر وانخداع البصيرة. وفي المذكرة، التي قد نختلف معها أقل من كثير من الموارنة، نقلاً عن البطريرك الحويك في تمهيداته لإنشاء كيان لبنان الكبير عام 1920: «إن فكرة لبنان الكبير تُحل الوطنية السياسية محل الوطنية الدينية». لو كنت أدركت معنى هذا الكلام مبكراً، لوفرت خمسين سنة من التوهم بأن التقدمية إما أن تكون قوموية اسلاموية في المحصلة، أو لا تكون. وكنت اكتشفت أن اشتراط كل من الدين والوطنية بالآخر، وضع لهما في مقام التكامل بدل التناقض. كما نرى. ومع تقديري للرغبة بالالتزام والإلزام بالميثاق، أرى أنه بمنزلة الإيمان الذي يتجسد بتطبيق الدستور والقانون، أي الشريعة، والمذكرة تقول في خلاصة طيبة، إن الميثاقية حالة تسبق الدستور وتؤسس له، من هنا نحيي مكتشفي جوهر الميثاقية، وعمقها الحافظ للبنان، من دون أن يتغاووا بعبقريتهم. أما أنه لا شرق ولا غرب، فنحن بحاجة الى ابتكار معادلة معاصرة لأن هذه الثنائية أمر تلحقه المتغيرات بناء على المستجدات في الخبرة والمعرفة. ونحن الآن في زمن العولمة، التي لا يعطلها الاستبداد أو الارهاب، ومعها لا تبقى الجغرافيا ولا حتى الإثنية معرفاً جامعاً مانعاً، لقد أصبحنا أكثر من شرق وأشد تركيباً من جهة، من دون أن يضطرنا شيء أو أحد للتنصل من خصوصياتنا المتعددة أيضاً، ولم يعد الغرب غرب الاستعمار حصراً. ونحن نعيش إملاءات أو إغراءات التعارف، أي تجديد معرفتنا بالغرب لا لنعود الى كرهه، وتجديد معرفة الغرب بنا، لا لاستلحاقنا، بل لتحرير مساحات الاشتراك في مصالحنا ومعارفنا، علماً أن نوازع الاستيلاء والاستتباع لم تعد حكراً على أدبيات الغرب الكولونيالية، بل ان فكرة الدولة الأمة، القومية أو الدينية، المستقوية الآن، هي قناع لنوازع مشرقية أيضاً. ومن هنا يصبح كلام المذكرة عن لبنان «متعاوناً مع الخارج ليضمن استقلاله»، لا يصح إلا بشرط الندية، أي تكافؤ الكيانات، بصرف النظر عن الأحجام، وإلا أصبح كل كيان صغير عرضة للزوال، تماماً كما لو استأثرت شهوة الغلبة بالأكثرية، بناءً على معايير الكمّ، وعرّضت الأقليات، أي مكونات المعنى الوطني، الى الزوال أو الضمور، الذي يؤول الى هزال الأكثرية وتشظيها كما نشاهد. ويحسن أن نلاحظ أن هاجس الاستقلال الذي قد يأتي من الخوف عليه، هو ثانوي في أي بلد عربي، وعضوي، بل يومي، في فلسطينولبنان دائماً، وفي العراق الآن، ما يلزمنا بالاحتياط في ترسيخ كياناتنا التي هي الحقيقة الوحيدة الناجزة. المنطق أن تقول المذكرة قول العقلاء، في ترجيح المعدود على العدد، على موجب المواطنة، وإن كان العدد، أي الكمّ، يصبح كيفاً، أي تعريفاً للجماعة الوطنية، إذا استمرت الجماعات بالشراكة في إنجاز الدولة الجامعة، وعليه فقد لا تكون المحاصصة في الوظيفة على أساس أعداد الطوائف، ضارة إلا بمقدار الإصرار على استمرارها، ومقدار الإخلال بموجبات العدل داخل كل طائفة، من خلال ترجيح الولاء الأعمى على النزاهة والكفاءة والبصيرة. ومن المنطق أن نسلم مع المذكرة بأن الحرية والتعددية، لم تأتيا من داخل الطوائف بذاتها، بل من «الفكرة التأسيسية التي أمنت التوازن والتشارك» تماماً، لأن التوازن والتشارك يثمران قدرة متعاظمة على إدارة التعدد، حتى يبقى كما هو، ميزة ومصدر حيوية، وفضاء للوحدة، لا نقيصة، ولا مجلبةً لتحويل الطوائف الى مصادر خطر على المواطنة، وعلى ذاتها وأبنائها. ويعديني، لأنه يعنيني، كلام المذكرة الموجوع والموجِع عن الاستغلال المبرِّح للديموقراطية، حتى أصبحت طريقة في إعادة انتاج الاستبداد الديني الأسوأ، بديلاً للاستبداد الذي تأبى العلمنة أن تكون نعتاً له، لأنها مشروطة بالديموقراطية. وقد يكون الوجع محتملاً، طالما ظلت الديموقراطية مقيّدة بالتوافقية، بما يوحي برجحان الثانية على الأولى، وهما، لا بأس من تساويهما في إنتاج الحلول، على أن يبقى هاجسنا أن نزيد ضمان الوفاق والسلام والتجديد والتجدد والسيادة والاستقلال، بزيادة الديموقراطية التي تكون قد أصبحت، بالمداومة عليها، مضاداً حيوياً للشقاق... وعلى أنه يمكن تليين القيد وتوسيعه من أجل مزيد من الديموقراطية في بناء الدولة، التي كلما تقدمت فكرتها ومشهدها، تخلصت من أحمال التوافقية، شاكرة لها فضلها. من دون توهم بإمكان أو صواب التخلص منها تماماً أو دفعة واحدة. لقد سرّتني المذكرة كلها، وكان يسعدني أن تكون الفرصة أوسع، لنقدها بتوسع وشفافية ولغة ودودة، معهودة ومحمودة في مثل هذه المقامات، وسرّني الاستشهاد بنص من «المجمع الماروني»، هذا المجمع المفصلي الغني والتفصيلي، والذي، كسواه من النصوص الراقية، كان بحاجة الى نقاش وطني ميثاقي، لكنه تحول الى ذكرى جميلة أكثر مما هو ذاكرة، أي مستحضر في أمسّ الحاجة إليه. وقد قلت عن الارشاد الرسولي الذي وقّعه الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، بأننا وأنه بحاجة الى ورشة، الى حامل اجتماعي وطني، لتسييله، لأننا، مسلمين أيضاً، كنا فيه، من مقدماته، الى السينودس الذي أنتجه... ولكنه تحول الى ذكرى، وأرجو ألا تتحول هذه الوثيقة الى ذكرى. والمتحولات لا تصنعها الا الكتل التاريخية التعددية، لا الجماعات الصافية. وهنا لا أعود ارى نفسي ملزماً بالإجابة عن السؤال الوارد في بطاقة الدعوة الى هذه الندوة، عن اعتبار المذكرة معبّرة عن مطالب مسيحية بحتة أم وطنية؟ وأعيذ من الخوف الذي يملي هذا السؤال موافقاً بل راغباً أن يبلغ المسيحي آخر المسيحية ويبلغ المسلم آخر الاسلام... لأنه ليس في آخرهما إلا الله والوطن. صراحاً بواحاً وحصراً. ولا أسلم بعدم جواز أن يبحث أبناء الطوائف عن مصالح طوائفهم، بل يجوز، والذي لا يجوز هو جعل مصلحتهم نقيضاً لمصلحة الآخرين. بل إن مصالح أي طائفة، من الآن الى قيام دولة الأفراد المنشودة، تحت سقف الحق والقانون، فإن مصالح أي طائفة لتكون مشروعة، عليها ألا تنتقص من الشراكة، أي العدالة. وعن حياد لبنان، أدعو الى التدقيق في اغتيال الرئيس رياض الصلح والملك الأردني عبدالله بن الحسين، لجهة احتمال أن يكون القرار فيه صهيونياً بريطانياً مشتركاً، بعدما تكررت المشاورات بين الزعيمين، تمهيداً لتفاهم مفترض، على ضرورة الحفاظ على الكيان الأردني واللبناني الناشئين حديثاً على تعقيدات تحتاج الى حكمة وصبر في المعالجة، بما يستلزم منحهما فرصة، خصوصاً في تضييق مساحة انخراطهما في خطة تحرير فلسطين، على أن يبقيا جاهزين للانسجام مع أي استراتيجية عربية، من دون مغامرة تؤدي الى إعاقة رسوخهما واستقرارهما، ما لم يرق للصهاينة وداعميهم، لأن المطلوب زعزعة الكيانين، خصوصاً لبنان لما يمثل من تحدٍ لمخطط التهويد المتعاظم تنفيذه هذه الأيام. ولو كنا دققنا سابقاً لكنا أدق حساباً في موقفنا التضامني مع المقاومة الفلسطينية، ليصبح وسطاً بين من عبروا حدود لبنان الى فلسطين فلا استفادوا ولا أفادوا، وبين آخرين جزعوا من هذا المسلك على لبنان، ولكنهم بالغوا في الجزع، فلا استفادوا ولا أفادوا. وبقي استقلال لبنان بدولة غير منتقصة من ضمانات القضية، وبقيت دولة وطنية فلسطينية مستقلة، من ضمانات لبنان. ومنسجماً مع المذكرة، أعلن حماستي للامركزية بشرط تفريعها على المركزية، أي الدولة العادلة القوية بمؤسساتها المفصولة كل منها عن الأخرى، مع اعتبار القضاء حجر زاويتها، تتيح النمو المتكافئ والمتناظر للأطراف التي تغتني بالحرية، في حين ينمو المركز بالديموقراطية، وتترسخ المواطنة نصاباً ويزدهر الحوار ويتمكن العيش المشترك، والمرأة العلامة الحضارية ومصدر الحياة والحيوية، والشباب أي المستقبل الذي يجمع بالعلم والعمل أجمل ما في الماضي الى أجدى وأحلى ما في المستقبل بدل استقبال الماضي من أجل استدبار المستقبل. مذكراً بأن الرئيس فؤاد شهاب وبالتفاهم مع رئيس الوحدة المصرية-السورية جمال عبدالناصر، وضع مائدة الاجتماع على جانبي الحدود بشجاعة وحكمة، ماحياً آثار ارتكابات عبدالحميد السراج بمساعدة السفير عبدالحميد غالب، واستجاباتنا لهما. والختام بالسيد موسى الصدر، الإمام الفقيه المجتهد، وكيف عاد الى حماية الدولة بعدما عارض السلطة بشدة، عندما أصبحت الدولة في خطر. سئل عام 1978: ما الحل في رأيك؟ فقال: «السلاح ليس هو الحل إطلاقاً، بل علينا أن نكوّن الدولة العادلة ونطلب منها أن تحمينا». «موافق مئة في المئة على نزول الجيش الى الجنوب مهما كانت هويته السياسية». «إن مبادرتنا، العامة الشاملة الى إنهاء الحرب وأجوائها تخرجنا من الحاجة الى القيمين علينا ولو كانوا إخوة لنا». وكان في 17-1-1977 قال: «إن كلمة البطريرك خريش في عيد الميلاد تصلح لأن تكون ورقة البحث السياسي المستقبلي». أثني على قول الإمام الذي يتألق في حضوره، وأكرره حرفياً في شأن مذكرة صاحب الغبطة والنيافة السيد الكاردينال بشارة يوسف الراعي. * كاتب ورجل دين لبناني