أتاحت الدكتورة منى سنجقدار شعراني من خلال دراستها التي تبنتها دار الآثار الإسلامية في الكويت عبر مشروع «الكتاب خير جليس»، الإطلاع على واحد من أهم المخطوطات التي تناولت علوم الآلات الميكانيكية التي عرفها العرب على اختلاف أسمائها ووظائفها. تطرح شعراني أسئلة تتناول التلاقح الثقافي والمعرفي بين العرب واليونان، وتوضح أنه لا يكاد يخلو مخطوط عربي يتناول مبادئ العلوم الطبيعية من ذكر أسماء فلاسفة اليونان كأفلاطون وأرسطو وأرخميدس. كيف قرأ الفلاسفة والعلماء العرب أسلافهم اليونان؟ وهل اقتصرت قراءتهم على الاستيعاب والنقل أم تعدت ذلك إلى البحث والتحليل؟ الدراسات التي قام بها علماء عرب ومستشرقون، أثبتت أن العلماء العرب والمسلمين، لم يكونوا مجرد نقَلة، بل استوعبوا علوم الأولين وطوّروها فأضافوا إليها إضافاتٍ أساسية ووضعوا لها أصولاً فكرية، أي بمعنى آخر ألبسوها حُلَّة جديدة مميزة. وانتقل البحث العلمي على أيدي العلماء العرب من التأمل إلى العمل. ومن التحليل النظري إلى التطبيق العملي، فظهرت بذلك مبادئ المنهج التجريبي. وفي تصنيفهم للعلوم حاول العلماء العرب ردم الهوة المتأصلة عند اليونان بين العلوم النظرية والعملية بخاصة في حقل الميكانيكا. فلم يعُد لديهم تفرقة بين العلم والصنعة. ففي حين احتقر اليونان الصُناع والحرَفيين فقد احترمهم العرب وقدروا أعمالهم. ونستطيع القول إن العلوم الطبيعية عند اليونان كانت دراسات فلسفية ميتافيزيقية تقوم على منهجٍ عقلي استنباطي، فتحوّلت على أيدي العلماء العرب إلى دراساتٍ علمية تستند إلى منهجٍ تجريبي استقرائي. وما كان يأتي إدراك هذا المنهج إلا من طريق المُشاهدات وإجراء التجارب وافتراض الفروض واستنباط النتائج. تلك هي الطريقة التي سار عليها علماء الطبيعة العرب في بحوثهم العلمية. ومن الطبيعي أن يظهر في مؤلفاتهم وصف لآلاتٍ تساعدهم في سير حياتهم العلمية. مؤرخو التكنولوجيا الغربيون أخطأوا الظن بالاعتراف بأن الميكانيكا العربية كان لها فقط طابع التسلية واللعب وكان يراد بها تمضية أوقات الفراغ وغاب عنهم أن قسماً منها كان لرفع الماء وجر الأثقال وتحديد أوقات الصلاة. ومن أهم العلماء العرب الذين عملوا في حقل الميكانيكا التطبيقية أبناء موسى بن شاكر (القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي) ومن أهم مؤلفاتهم كتاب الحيل، وأيضاً العالم الجزري (القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي) الذي يعتبر كتابه «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل» من أهم الكتب في هذا الحقل. وكثرت الدراسات عن بني موسى والجزري، لكن تقي الدين الدمشقي لم يأخذ نصيبه من الاهتمام، وجاءت تلك الدراسة لتكشف النقاب عن أهمية مخطوطات هذا العلامة العربي الذي جمع بين العلوم الرياضية والفزيائية والفلكية والميكانيكية. ولد تقي الدين في دمشق بصورة محققة (927 هجرية/ 1520 ميلادية) وتوفي (993 هجرية/ 1585 ميلادية). نشأ في بيت علمٍ حيث كان أبوه قاضياً. وقضى بعضاً من عمره في مصر. كما يذكر أنه رحل إلى القسطنطينية وصممَ مع أخيه الأكبر في عام 953 هجرية/ 1546 ميلادية آلة لتدوير السيخ الذي يوضع فيه اللحم على النار فيدور من نفسه من غير حركة الحيوان، كما أنشأ تقي الدين مرصداً فلكياً وانتهي منه عام 985 هجرية/ 1577 ميلادية. ورغم قصر حياة هذا المرصد إلا أن تقي الدين نجح في أخذ بعض المشاهدات الفلكية منه. وترجع أهمية مخطوط «الطرق السنية في الآلات الروحانية» إلى إظهار أهمية علم الحيل عند العرب وتأثيره في تطور التقنيات الحديثة، وعثر عليه الدكتور أحمد يوسف الحسن بطريق المصادفة أثناء انشغاله ببحثٍ عن الهندسة الميكانيكية عند العرب، في فهرس مكتبة تشستر بيتي في دبلن. ورأى الدكتور الحسن أن يعمد إلى نشر المخطوط حيث إنه يحتمل أن لا توجد له نسخ معروفة في المكتبات العالمية، كما أنه بخطٍ جيد ومقروء. ويحتوي المخطوط على وصفٍ دقيقٍ للآلات التالية: حق القمر أو علبة القمر، وهي ساعة فلكية ميكانيكية مشابهة في تركيبها للساعات الميكانيكية. البنكامات؛ وعلم البنكامات يعنى بالصور والأشكال الموضوعة لمعرفة الساعات أي أنه علم يعرف به كيفية تقدير الزمن باستخدام الآلات. ووصف تقي الدين الدمشقي في مخطوطه بعضاً من أصناف البنكامات، مثل البنكامات المائية والرملية. آلات جر الأثقال، ووصف ثلاثاً منها وهي: الرافعة التي تعمل بالدواليب المسننة، والآلة التي تعمل بالبكرات والحبال، والآلة التي تعمل باللولب. وعلى غرار من سبقه من العلماء العرب في حقل الميكانيك التطبيقي يعتمد تقي الدين الدمشقي على الدقة المتناهية في وصف أجزاء الآلات وكيفية عملها. بنكام القمر هو صفيحة مركبة على كوةٍ فيها دائرة نصفها الأعلى مقسومٌ بإثني عشر قسماً، في كل قسمٍ منها باب دائرة مخروقة إذا مضى من النهار ساعة تلونت أول طاقة منها بالحمرة وظهر منها بالرقم واحد ثم في الساعة الثانية تتلون الثانية وفي الساعة الثالثة تتلون الثالثة إلى تمام اثنتي عشرة ساعةٍ تكون متلونة كلها بالحمرة فيعلم انقضاء ساعات النهار ثم إذا مضى من الليل ساعةٍ تلونت الأولى بالسواد ثم في الساعة الثانية تتلون الثانية وهكذا إلى تمام اثنتي عشرة ساعة الليلية تكون الإثنتي عشرة ساعة كلها متلونة بالسواد. وهذا الأمر ظاهرٌ في كون الشمس في الاعتدال في تساوي الليل والنهار وأما في زيادة النهار فإن كانت ساعة ظهرت ساعة من الليلية فيعلم أن هذه الساعة كان من حقها أن تكون ليلاً في الاعتدال وما في نقص النهار إذا كان ساعة أيضاً ودخل ساعة من الليل وبرزت ساعة نهارية حمراء عُلم أن هذه الساعة كان من حقها أن تكون نهاراً في الاعتدال لصحة تلك الأرقام عليها بحيث أنها إذا ابتدأت من وقت ما بساعة يظهر رقم الواحد وفي الثانية يظهر رقم اثنين وفي الثالثة يظهر رقم ثلاثة، فإذا عادت إلى الوقت الذي ابتدأت ظهر رقم الأربع والعشرين ساعة النهارية والليلية. وبأعلى هذه الدائرة خرق مستدير وفوقه خرق مربع مستور بالسواد في محاق الشهر فإذا أهلّ الشهر ظهر منه شكل الهلال الأبيض ومن الخرق المربع رقم واحد إشارة إلى مُضي يوم من الشهر العربي ولا يزال يأخذ في الزيادة إلى أن يصير بدراً ثم يتناقص. وتستعرض المخطوطة بعضاً من الالآت الأخرى مثل المضخات ومن أمثلتها المضخات الحلزونية، والتي تستخدم في رفع الماء من أسفلٍ إلى أعلى وسميت كذلك لأن الماء يصعد في شكلٍ حلزوني إلى أن يصل إلى مستقره في الأعلى ويسكن في الحوض الذي أعد من أجله. ويقول الدكتور أحمد يوسف الحسن؛ مُكتشف ومحقق المخطوطة: تأتي أهمية وصف المضخة الحلزونية من أنها لم توصف في كتب المهندسين والمؤرخين العرب السابقين لتقي الدين الدمشقي ومع أن هذه المضخة كانت معروفة قبل الفتح العربي (حيث تنسب إلى أرخميدس أحياناً) وبقيت مستعملة بعد ذلك في معظم أراضي البحر المتوسط،إلا أننا لا نجد وصفاً لها في المراجع العربية المتاحة لنا قبل تقي الدين الدمشقي وفي الأبحاث التي تدور حول آلات رفع الماء في العالم الإسلامي لا نجد أيضاً ذكراً للمضخة الحلزونية. وهذا يوحي بأنها لم تكن مستخدمة إلا على نطاقٍ ضيقٍ أو غير مستخدمةٍ في الأقطار التي عاشت فيها غالبية مؤلفي الكتب الهندسية العربية. ولكن في المخطوطات الأوروبية التي تعود إلى عام 1405 م نجد رسماً لأمثلةٍ للمضخات الحلزونية، وتدل المراجع الحديثة في تاريخ التكنولوجيا على أن استخدام المضخة الحلزونية قد ازدهر في أوروبا بعد هذه الفترة وبخاصة في أعمال صرف المياه وأصبحت تستعمل بكثرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر من الميلاد. إن مخطوطة تقي الدين الدمشقي تُعد مرجعاً مهماً لدارسي تاريخ التقنية وآلية عمل الآلآت قديماً، فهي لم تقتصر فقط على الشرح والتحليل بل هي مُطعمة بالصور الشديدة الوضوح، مع تبيان كامل وشرح واف لعمل كل آلة على حدة.