في اطار اهتمام خالد حربي بالتراث العربي وبعلوم الحضارة الإسلامية، ترجم القسم الخاص ب «العلوم عند المسلمين» من كتاب «تأريخ كمبردج للإسلام المجتمع والحضارة الإسلامية» للمؤلف جورج قنواتي، في محاولة لإلقاء الضوء على الإنجازات العلمية المدهشة التي ميزت العصور الوسطى الإسلامية في فروع العلوم كافة. ويأتي هذا الكتاب في إطار الاهتمام الغربي بتاريخ العلم العربي والإسلامي منذ بداية حركة الترجمة في صقلية وحتى العصر الحديث، فصدرت الدراسات الموسوعية المتخصصة في تاريخ العلم العربي الإسلامي، منها على سبيل المثال: «العلوم عند العرب» للإيطالي ألدومييلي، والمؤلف الموسوعي «تراث الإسلام»، الذي ألفه أكثر من عشرة مستشرقين غربيين، و «تاريخ الفلسفة الإسلامية» للمستشرق الفرنسي مونك، و «تأريخ لعلم الفلك العربي الإسلامي» للمستشرق الإيطالي كارلو ألفونسو نللينو، ومازالت الدراسات والأبحاث تصدر في علوم الحضارة العربية الإسلامية وآدابها. والبحث المترجم مأخوذ من موسوعة كبيرة عني بإخراجها الأساتذة: لامبتون، وبرنارد لويس، وهلوت، بعنوان «تاريخ كامبردج للإسلام»، وصدرت طبعتها الأولى عام 1970 في مجلدين كبيرين، واشترك في تأليفها عشرات المستشرقين من جامعات: كامبردج ولندن ونيويورك وكاليفورنيا وكولومبيا وباريس وتورنتو وتولوز وإسطنبول، وغيرها. عنيت الموسوعة بكل ما يتعلق بالإسلام كدين ومجتمع وأمة، وحضارة أنتجت من العلوم والآداب ما أفادت منه الإنسانية على مدار تاريخها الطويل، والجزء المترجم من المجلد الثاني، الذي يحتوي على ثلاثة عشر مقالاً وبحثاً، تضمن الفصل العاشر بعنوان «العلم»، في إطار الاهتمامات من جانب الدكتور خالد حربي بإعادة كتابة تاريخ العلم العربي الإسلامي، ومعرفة كل ما يكتبه الغرب عن الإسلام والمسلمين وفهمه. والنص المترجم يحتوي على مقدمة وعشرة مباحث وخاتمة: في المقدمة، أوضح المؤلف (جورج قنواتي) حالة العلوم في الإسلام، فأكد على أن الإسلام مدح العلم وحث على طلبه، مشيراً إلى أن العلم المقصود هو العلم الشرعي الذي يجعل الإنسان قادراً على فهمٍ واستيعابٍ أفضل لكتاب الله وسنة نبيه «صلى الله عليه وسلم»، فالعلماء المسلمون، سواء كانوا فلكيين أو رياضياتيين أو فيزيائيين أو كيميائيين، لم ينشدوا إلا العمل من أجل تعظيم الله وخدمة الدين. ونظر الأوروبيون إلى العلوم الإسلامية كعلوم لها تأثير هام في التطور العام للثقافة الإنسانية، وكحلقة مهمة من حلقات تطور الحضارة الإنسانية، واعتبروا كلمة «عربي» مرادفة لكلمة «مسلم»، فاستخدم المستشرقون الغربيون المصطلحات إبان العصور الوسطى بصورة مترادفة، من دون التمييز بين الشعب العربي والشعوب غير العربية التي دخلت تحت مظلة الإسلام، كالفرس والأتراك، والبربر، والأندلسيين، والمصريين. وحاول قنواتي التدليل على تأثير الحضارة الإسلامية في العلوم الإنسانية الغربية، فأشار إلى أن الألفاظ العربية التي انتقلت إلى اللغات الغربية، خير دليل على تأثر هذه البلدان بالحضارة العربية الإسلامية ونقلهم عنها، الأمر الذي يؤكد على المكانة الرفيعة للعلوم الإسلامية في تاريخ الثقافة الغربية والعالمية المعاصرة. ثم سلك في تقسيم العلوم عند العرب نهج الكثير من المؤرخين المفكرين المسلمين، في تصنيفهم العلوم إلى دينية، ودنيوية عقلية، ثم أوضح أن بحثه منصب على سبر أغوار العلوم العقلية والبحث فيها. وفي المبحث الأول، تناول علم الحساب عند المسلمين كأول العلوم الرياضية التي استخدمها المسلمون، فقسموا الأعداد إلى أعداد كلية، وكسور، وأعداد غير عقلية، واستخدموا الأس واستخراج المربع والمكعب والجذور التقريبية، وعرفوا القواعد الأساسية للتلاعب العددي والمعادلة المتطابقة والتباديل والتوافيق والتكامل والجمع والقسمة، واكتشفوا خواص الأعداد المتحابة. وخصص المؤلف المبحث الثاني لعلم الهندسة، الذي تأسس بناء على المعرفة العميقة بالأعمال اليونانية والسريانية السابقة، فاستخدم العلماء المسلمون الأجزاء المخروطية المتقاطعة في بناء المضلعات المنتظمة، والتي ظهرت في تصميم الأرابيسك، بالإضافة إلى جانبها الآخر المتمثل في العمليات الحسابية، وفي رسم الأشكال الهندسية منتظمة الأضلاع، كما وظفها العرب في التطبيقات، مثل: مشكلات المساحة، والميكانيكا، وتشييد الطواحين والنواعير، والمجاديف والمنجنيق. أما المبحث الثالث، فقد تناول فيه علم الجبر، فأوضح أن المصطلح مستمد من المسمى العربي الذي يشير إلى إعادة شيء محطم إلى وضعه الطبيعي، أو تكبير شيء غير مكتمل. ثم أكد على أن المؤسس الحقيقي لهذا العلم هو محمد بن موسى الخوارزمي (القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي)، ثم حقق عمر الخيام تقدماً آخر في هذا العلم، حيث قدم حلولاً لمعادلات الدرجة الثالثة، وقسمها إلى خمس وعشرين فئة، طبقاً للعدد وطبيعة العلاقات على طرفي المعادلة. وفي المبحث الرابع، الذي تناول علم حساب المثلثات، أشار إلى أن العرب هم مخترعو حساب المثلثات الكروية والسطحية، والتي لم تكن معروفة لدى اليونانيين، فكان للبتاني الفضل في نهوض هذا العلم، ثم حقق أبو الوفاء المزيد من التقدم فيه، فكان أول من وضع نظرية جيب الزاوية للمثلث الكروي العام، مؤكداً أن أبا الوفاء هو من اخترع القاطع، وأسماه «قطر الظل»، وليس «كوبرنيكوس» كما هو معروف لدى الغرب الأوروبي. أما علم البصريات، فقد أفرد له المبحث الخامس، موضحاً براعة المسلمين في تصنيع المرايا والعدسات، مؤكداً على أن أهم المتميزين في هذا العلم هو الحسن بن الهيثم، الذي ناقش طبيعة الضوء، وصرح بأن الضوء يصدر من الجسم الباعث، كما درس العدسات، مختبراً إياها بمرايا مختلفة مسطحة وكروية ومضلعة وأسطوانية ومقعرة ومحدبة، ثم تبعه كمال الدين الفارسي في المجال نفسه، ونجح في تفسير تكون أقواس القزح الأولية والثانوية. وخصص المؤلف المبحث السادس لعلوم الميكانيكا والهيدروليات والتكنولوجيا، فأوضح أن كتاب «الحيل» لموسى بن شاكر، يعد أول كتاب دراسي عن الآلات، ويرجع تاريخه لعام 246ه/ 860م. وأكمل مسيرتهم الجزري، مؤلف كتاب «في معرفة الحيل الهندسية». أما عن أجهزة القياس، فقد استخدم «الخازن» أعمال القدماء في تقديم نظرية تفصيلية عن التوازن، بتعريف مركز الجاذبية للجسم، في كتابه «ميزان الحكمة»، كما أثبت البيروني أحد أعظم علماء الإسلام من خلال التجربة، عدداً محدداً من الجاذبات الخاصة، عن طريق «آلة مخروطية» تعد أول مثقلة عرفتها الحضارة الإنسانية. وفي المبحث السابع تناول علم الفلك، فأوضح أن العلماء المسلمين قد صنفوا هذا العلم من العلوم الرياضية، واعتبروا الهدف الوحيد له هو دراسة الحركات الظاهرة في السماء وعرضها في مصطلحات رياضية، وعرف هذا العلم عند العرب باسم «علم الميقات». أما كيف ومتى بدأت دراسة الفلك عند العرب باعتباره علماً، فيذكر المؤلف رواية ابن سعيد في كتابه «طبقات العلوم» عن الخليفة المنصور العباسي، الذي قابل أحد مواطني الهند ممن كان على دراية كبيرة بالحساب الذي يتعلق بحركات النجوم، ليتعرف منه على حساب الأزياج الفلكية المرتبطة بالسنة القمرية، وتوالت المؤلفات العربية معتمدة على المصادر الهندية، فظهرت العديد من المؤلفات للخوارزمي والبلخي والفزاري ويعقوب بن طارق. ثم كانت النقلة الكبرى في علم الفلك العربي، بترجمة أعمال المؤلفين اليونانيين في الفلك، فأحدثت طفرة كبيرة في الفلك على يدي خالد البرمكي، وثابت بن قرة، والفرجاني. وعن خصائص علم الفلك الإسلامي، يذكر أن علماء الفلك المسلمين درسوا المركزية الأرضية ومركزية الشمس والكواكب وحركاتها، وعددوها في سبعة أفلاك (زحل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، القمر)، ودرسوا ميل الدائرة الظاهرية للشمس مقارنة بخط الاستواء الأرضي، وامتنع علماء الفلك المسلمون عن تعريف طبيعة الأفلاك السماوية، واعتبروها مكونة من مادة واحدة هي العنصر الخامس الذي يختلف اختلافًا جوهرياً عن العناصر الأرضية الأربعة. وفي المبحث الثامن يتناول علم الجغرافيا، فيوضح أنه بفضل جهود علماء الفلك والجغرافيا المسلمين في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، استطاع علم الجغرافيا أن يتطور في مجال الجغرافيا الأدبية حول الإمبراطورية الإسلامية الشاسعة، ثم تطور إلى علم الرحلات الجغرافية لوصف المدن والطرق التي تربط بينها، إلى أن ظهرت القواميس الجغرافية الكونية والتاريخية والخرائط. وبذا، يدين علم الجغرافيا الحديث لجهود العلماء المسلمين في هذا التطور. وأفرد المبحث التاسع لعلم التنجيم، الذي شهد مكانة وأهمية كبيرتين في حقبة العصور الوسطى، رغم ما واجهه من مناهضات كبيرة من جانب معظم الفلاسفة والمتكلمين والمفكرين الدينيين، باعتباره علماً متناقضاً مع نفسه. وقد أتاحت ملاحظة النجوم الفرصة لأولئك الذين عرفوا كيف يستوحون من إشاراتها ما تحمله من دلالات على الحاضر والمستقبل. ومن تكوينات هذه العوامل المختلفة، تمكن المنجمون من التنبأ ببعض المسائل، من قبيل: كيف يسافر بعض الأشخاص الغائبين، ومن كان مسؤولاً عن السرقة، وأين يمكن العثور على شيء ضائع، وحساب اللحظات المناسبة للقيام ببعض الأعمال، وميلاد فرد ما، أو بداية حكم طائفة أو دين، والتنبوء بما سيحدث لهم في المستقبل... وغيرها. ويرجع هذا التطور في علم التنجيم إلى مصادره الهندسية والفارسية واليونانية والعرب قبل الإسلام، إلى جانب تفوق العرب في مسائل حساب المثلثات. وفي المبحث العاشر والأخير، تناول العلوم الطبيعية، كالطب والصيدلة والكيمياء، فأوضح أن الأطباء المسلمين بنوا على التقدم الذي حققه قبلهم الطب الإنساني، بفضل جهود أبقراط وجالينوس وأطباء مدرسة الإسكندرية، واستفادوا من الوصفات الطبية التي كانت معروفة لدى العرب قبل الإسلام، وطوروا كل هذا، فحققوا نهضة طبية غير مسبوقة على يد عدد كبير من البارعين في هذا المجال الهام والحيوي لصحة الإنسان. وقد بدأ علم الطب يحقق نهضة وتقدماً سريعين إبان القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) في بغداد، حينما استقدم الخليفة العباسي المنصور أفضل أطباء مدينة جنديسابور، جورجيس بن بختيشوع، الذي أصبح الطبيب الخاص للخليفة. وكانت رغبة الخليفة المأمون في ترجمة علوم الأمم الأخرى ونقلها إلى العربية، سبباً في تحقيق نهضة أخرى في علم الطب، عندما وظف للترجمة رجلاً عبقرياً من مدينة الحيرة هو حنين بن إسحق، فترجم عدداً كبيراً من الكتب، وألف الكثير في مجال الطب. وأبرز الأطباء أبو بكر الرازي، صاحب كتاب «الحاوي»، الموسوعة الطبية العربية الشهيرة، التي لما تحظ بعد بالتحقيق التام والنشر المحقق المفصل، رغم كونها أهم مؤلفات الطب العربي الإسلامي وأضخمها حجماً، فهو موسوعة طبية لكافة المعلومات والعلوم الطبية المعروفة، حتى وفاة الرازي في بداية القرن العاشر الميلادي. ونبغ من بعده ابن سينا، الذي حقق كتابه «القانون» شهرة واسعة، وذاع صيته في كافة أرجاء العالم الإسلامي وأوروبا في العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبية، وإسحاق بن سليمان الإسرائيلي، وابن الجزار، وفي الأندلس نبغ ابن زهر وابن رشد وأبو القاسم الزهرواي، ووصل الطب الإسلامي على يدي هؤلاء العلماء إلى أوج ازدهاره، فحقق نهضة غير مسبوقة. وارتبط بعلم الطب علم الصيدلة، الذي تطور بتطور الطب، وعلى أيدي الأطباء أنفسهم، الذين أضافوا للمادة الصيدلانية الموروثة من اليونان علاجات ذات قيمة، وحقق المسلمون إنجازات عظيمة في كافة العلوم الطبية والطبيعية والصيدلانية. أما علم السيمياء (الكيمياء)، فطبقاً لكتاب الفهرست لابن النديم، فإن الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، هو أول أمير عربي اهتم بهذا العلم، وأصبح لهذا العلم أسس مع جابر بن حيان، واتخذت الكيمياء جانباً أكثر عملية، في وصف الأدوات والتجارب بدقة، على يدي أبو بكر الرازي، وبفضل مناقشاته وكيميائيته العملية، ورفضه الممارسات السحرية، عرف علم الكيمياء العمليات الكيميائية المتعددة، كالتقطير والتبخير والذوبان والبلورة والتصعيد والتنقية والدمج والتشميع، فبذل جهداً كبيراً لتأسيس علم الكيمياء يستحق امتنان الأجيال القادمة. وفي الخاتمة، أشار المؤلف إلى أن هذه الدراسة ليست إلا «محاولة لإلقاء الضوء على الإنجازات العلمية المدهشة التي ميزت العصور الوسطى الإسلامية»، موضحاً أن المجتمع العلمي العربي لم يعرف ظاهرة الجنسية أو القومية، فقد استظلت الجنسيات المتعددة، كالفرس والأتراك والبربر بظل الدولة الإسلامية، ووجدت تربة أو بيئة صالحة لنموها، فأظهرت نبوغًا غير مسبوق. كما أكد على أن الإسلام لم يبد أي معارضة للبحث العلمي، بل على العكس من ذلك، حث القرآن الكريم على طلب العلم، وعلى توفير المناخ المناسب للبحث العلمي وتشجيعه من قبل أولي الأمر، ولهذا حقق العلماء المسلمون في العصور الوسطى من التقدم والفضول العلمي والبحث ما يوجب على العلماء الغربيين المعاصرين ذكر هؤلاء في نصوصهم التاريخية، فهم كانوا معلمين لأجدادهم، في محاولة لربط الحاضر بالماضي العظيم.